صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
تحت وابل الرصاص، تُقصف الحقيقة بالتجاهل… السودان لا يُقتل بالرصاص وحده، بل بالصمت الدولي المُطبق… كل يوم، يُقصف الناس، وتُقصف معهم الحقيقة بتجاهل العالم.
في حرب بلا شهود، يُترك الضحايا وحدهم ليكتبوا تاريخهم بدمائهم، بينما يكتفي العالم بمشاهدة الكارثة من خلف زجاج بارد… للمدن التي صارت خرائط خوف… في السودان، لم تعد الحرب حدثًا استثنائيًا عابرًا، بل تحولت إلى إيقاع يومي مرعب للحياة… يستيقظ الناس على دوي المدافع، وينامون على أسئلة ثقيلة لا تجد إجابة:
من يحكم هذا الخراب؟
من يحمي الأبرياء؟
ومن يسمع صرخاتنا؟
المدن التي كانت تضج بالحياة تحولت إلى خرائط خوف… البيوت التي كانت مأوى، صارت أهدافًا سهلة.
في الأسواق، لم يعد الناس يتبادلون أسعار السلع، بل أخبار الموت والنزوح.
وفي البيوت، لا تُخطط للمستقبل، بل لطرق النجاة.
هذه الحرب لم تسرق فقط الأمن والغذاء، بل سرقت المعنى نفسه:
معنى الدولة، معنى الأخلاق، ومعنى التضامن الإنساني.
العالم الذي يتغنّى بالقيم وحقوق الإنسان، يقف اليوم متفرجًا على واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. بيانات شجب خجولة، اجتماعات مغلقة بلا جدوى، ومؤتمرات لا تترك أثرًا، بينما تتسع المقابر وتضيق الخيارات أمام المدنيين.
السودان اليوم ليس مجرد ساحة صراع عسكري، بل هو مرآة قاسية تعكس فشل السياسة الدولية، وتعرّي ازدواجية المعايير، وتطرح سؤالًا مريرًا يدمي الضمير:
هل تُقاس قيمة الإنسان بلونه وجغرافيته؟ أم أن الدم السوداني أقل إلحاحًا على ضمير العالم؟.
من هنا يبدأ النقاش الحقيقي، ومن هنا تتكشف الخيانة السياسية والأخلاقية.
(صراع النخب.. وخذلان المجتمع الدولي)
اندلعت الحرب في السودان نتيجة صراع نخبوي على السلطة، لكنها سرعان ما تحولت إلى حرب شاملة على المجتمع نفسه.
تفككت مؤسسات الدولة، وغابت سلطة القانون، وتعددت مراكز القوة المسلحة.
داخليًا:
فشلت النخب السياسية فشلًا ذريعًا في تقديم مشروع وطني جامع، وانشغلت بحساباتها الضيقة على حساب الوطن.
خارجيًا:
تعامل المجتمع الدولي مع الأزمة ببرود قاتل، مكتفيًا بـ “إدارة الصراع” بدل العمل الجاد والحاسم على إيقافه.
هكذا تُرك السودان ينزف، بلا ضغط حقيقي وفعال على أطراف الحرب، وبلا حماية ملموسة للمدنيين.
شاهد على الخذلان:
آدم أحمد، مواطن من مدينة الفاشر، ليس مجرد رقم في تقرير أممي، بل هو شاهد حي على الخذلان.
مكث أكثر من عامين تحت القصف المدفعي والحصار الخانق، حتى اضطر هو وجيرانه إلى أكل علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
يقول إن الصبر خانه عندما رأى الجوع ينهش عيون أطفاله. قرر الهرب مع أسرته، لكنهم وقعوا أسرى بيد مليشيات الدعم السريع… هناك، قُتل أخوه الأصغر أمام عينيه بدم بارد، وسُاقت زوجته وأطفاله إلى مصير مجهول، بينما ظل هو معتقلًا لأكثر من شهرين… وفي يومٍ بدا عاديًا، سقطت قذيفة مسيّرة قرب مكان احتجازه… عمّت الفوضى، واستغل آدم اللحظة ليهرب… سار أيامًا في الصحراء حتى وصل إلى منطقة طويلة، وهناك وجد زوجته وأطفاله وقد نجوا بمعجزة. نجاتهم لم تكن انتصارًا، بل كانت تذكيرًا قاسيًا بمن لم ينجُ، وبعالم سمح لكل هذا الرعب أن يحدث… التناقض القاتل بين الخطاب والفعل.
وهناك في واشنطن، يناقش أزمة السودان داخل قاعات مجلس الشيوخ الأمريكي في جلسة خاصة. كلمات قوية، تحذيرات من كارثة إنسانية، ودعوات للمساءلة… لكن على الأرض، لم يتغير شيء يُذكر… هذا التناقض بين الخطاب الرنان والفعل الباهت يعكس جوهر الخذلان:
اهتمام سياسي بلا التزام أخلاقي حقيقي، وإدارة أزمة بلا إرادة حاسمة لإنهائها.
هل يُكافأ الجناة بالنسيان؟
السودان اليوم يقف عند مفترق طرق تاريخي وخطير.
حرب طويلة الأمد تُعيد تشكيل المجتمع بالقوة، وأجيال تنشأ على الخوف والنزوح، ودولة تتآكل يومًا بعد يوم.
السؤال لم يعد فقط: من بدأ الحرب؟ بل من سمح لها أن تستمر؟ من خذل السودان عندما كان يحتاج موقفًا دوليًا حاسمًا لا مجرد بيانات إدانة؟… إذا استمرت هذه الحرب، فما هو شكل السودان القادم؟ هل سنشهد دولة ممزقة تحكمها المليشيات، أم وطنًا قادرًا على لملمة جراحه؟
الأهم من ذلك: هل يمكن للعدالة أن تجد طريقها وسط هذا الركام، أم سيُكافأ الجناة بالصمت والنسيان؟
المسؤولية لا تقع على طرف واحد، بل على منظومة كاملة: قوى محلية فشلت في حماية شعبها، وقوى دولية اختارت المصالح على القيم.
يبقى الأمل معلقًا بإرادة السودانيين أنفسهم، لكن الإرادة وحدها لا تكفي دون دعم حقيقي وضغط دولي صادق يضع حدًا لهذه المأساة.
في خاتمة المقال أسأل سؤال وانتظر الإجابة من القراء…
هل تعتقد عزيزي القارئ أن العالم سيتحرك فعليًا لإنهاء هذه الحرب في السودان؟ وما هي الدوافع لذلك التحرك إن وجد؟

