صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي

 

الأبانوسية النيجيرية مريم بوكار حسن الشاعرة والناشطة المعروفة باسمها الفني (Alhanislam)، والتي تم تعيينها المدافعة العالمية للسلام بالأمم المتحدة ( UN Global Advocate For Peace)، ألقت خطاباً مؤثراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2024 الماضي، كانت بمثابة صرخة إنسانية، أختارت كلماتها بعناية تحسباً منها أنها تخاطب أذنٌ صاغية، ولكن كانت تقول كلاماً صحيحاً في المكان الخطأ، هي كانت تخاطب جمعية عالمية للصم أو كذلك يبدو من عدم إكتراث زعماء العالم للإنسانية بقدر إهتمامهم لخطابات أصحاب القوة والإقتصاد.

​ عندما تحدثت مريم عن أثر الصراعات على الأجيال، وأن كثر ضحاياها هم الأطفال، كان صدى خطابها هو الأقسى والأكثر واقعاً على أطفال السودان؛ حيث لا يقتصر الأمر على سرقة برائتهم وطفولتهم، بل يصل إلى سرقة الحياة نفسها ” الأمن-السلامة من الانتهاك أو القتل المباشر أو المرض- الأمل- الطموح). فبين نيران المدافع وفتك القنابل للأجساد والأشياء، يتحول الأطفال في السودان إلى وقود صامت لحرب لم يختاروها، بينما يكتفي المجتمع الدولي بمراقبة المشهد من وراء زجاج القرارات المعلقة.

 

مأساة تتجاوز النزوح:

 

​لقد تجاوزت الكارثة الإنسانية في السودان مرحلة “النزوح والتشريد” لتدخل مرحلة “الموت الجماعي البطيء” بسبب المجاعة والمرض، خاصة في المناطق المحاصرة وتلك التي تسيطر عليها مليشيات الدعم السريع؛التقارير المروعة الواردة من مناطق مثل الفاشر بشمال دارفور لا تتحدث عن نقص بسيط في الإمدادات، بل عن تسجيل وفيات يومية بسبب سوء التغذية الحاد وسط الأطفال والنساء.

شبكة أطباء السودان، ومراسلون محليون، يصرخون بأرقام تضاعف حجم المأساة: أطفال رُضَّع يذبلون في مراكز إيواء مكتظة، وأمهات يفتقرن إلى أبسط مقومات البقاء.

​هذه ليست مجرد أزمة غذاء؛ إنها أزمة انهيار شامل للمنظومة الصحية.. ففي ظل القصف المستمر، تحولت المستشفيات إلى أهداف أو خرجت عن الخدمة تماماً. ومع توقف حملات التطعيم، تتفشى الأمراض التي كان يمكن السيطرة عليها بسهولة، مثل الكوليرا وحمى الضنك، لتصبح قوى قتل موازية للرصاص والمسيّرات. الطفل السوداني اليوم يواجه عدوين: المايشيات المسلّحة، والأمراض القاتلة التي تتربص به في كل زاوية.

النساء والأطفال أهداف ممنهجة:

 

​ تتحمل النساء والأطفال العبء الأكبر والأكثر وحشية وسط معارك الحرب المشتعلة هناك. ففي مناطق سيطرة مليشيات الدعم السريع، تظهر تقارير المنظمات الحقوقية عن العنف الممنهج ضد النساء، مما يضيف بعداً إجرامياً آخر للصراع.. والأطفال، بالإضافة إلى جوعهم، يشهدون مستويات من العنف تفوق قدرة البشر على الاحتمال، مما يخلق جيلاً يعاني من صدمات نفسية عميقة قد لا تندمل آثارها لعقود.

​إن التداعيات لا تقف عند حدود الجسد.. فمستقبل السودان يُسرق هو الآخر.. مع توقف الدراسة وتشريد المعلمين وطلابهم في دول الجوار، أو تجميعهم في مخيمات إيواء تفتقر لأبسط شروط التعلم، تتسع الفجوة التعليمية لتؤكد أن هذه الحرب لا تدمر الحاضر فحسب، بل تصادر أي أمل في غد أفضل.

لماذا الصمت الدولي؟

 

​السؤال الذي يتردد صداه في وسط الضحايا هناك في الفاشر والدلنج هو: أين الأمم المتحدة وأصحاب الخطب المنمقة في قاعات نيويورك وبروكسل وجنيفا؟ رغم النداءات المتكررة من ممثلي الضحايا وأحياناً الضحايا أنفسهم يستنجدون، ومعهم المنظمات الإنسانية وحتى الأمم المتحدة نفسها، طالبت باستعجال فك الحصار عن المدن المتضررة. لكن يبدو أن الأزمة السودانية تقع في المنطقة الرمادية للاهتمامات الدولية!؛ يتم الاكتفاء بالاجتماعات والبيانات التي “ترفض” أو “تدعو”، دون اتخاذ إجراءات حاسمة على الأرض تضمن فتح ممرات إنسانية آمنة بشكل دائم.

​إن الأنانية السياسية والتعقيدات الجيوسياسية لا يجب أن تُستخدم كمبرر لترك آلاف الأطفال يواجهون الموت البطيء. كما قالت مريم بوكار حسن، هذه طفولة تُسرق، ولكن الصمت الدولي يساهم اليوم في سرقة حقهم الأساسي في الحياة.

​يجب أن يتحول هذا الصدى إلى فعل: لا بد من الضغط على الأطراف المعنية لتسهيل وصول المساعدات.. إن حياة جيل كامل على المحك، وسجل التاريخ لن يرحم أولئك الذين استداروا بوجههم عن أطفال السودان وهم يصارعون الموت جوعاً، فهم ينتظرون مخرجات إجتماعاتكم التي تداولتم فيها كل شيء، لكنكم لم تتطرقوا لمأساتهم.

Exit mobile version