ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في ملحق آسيوي ناري حُسم في العاصمة القطرية الدوحة تمكن المنتخب القطري من انتزاع بطاقة التأهل إلى نهائيات كأس العالم (2026) بعد فوزه المثير على نظيره الإماراتي بنتيجة (2-1) في المباراة التي أُقيمت ضمن الجولة الأخيرة من منافسات المجموعة الأولى في الملحق الآسيوي المؤهل للنهائيات وشهدت المباراة تسجيل بوعلام خوخي الهدف الأول في الدقيقة (49) وأضاف بيدرو ميغيل الهدف الثاني في الدقيقة (74) بينما جاء هدف تقليص الفارق لصالح الإمارات عن طريق سلطان عادل في الدقيقة الثامنة من الوقت بدل الضائع إلا أن الوقت لم يسعف الإماراتيين لتحقيق التعادل بهذا الفوز تصدرت قطر المجموعة الأولى برصيد (4) نقاط لتسجل مشاركتها الثانية في نهائيات كأس العالم بعد مشاركتها الأولى كمستضيفة للبطولة في عام (2022) أما منتخب الإمارات فبات عليه انتظار فرصة جديدة عبر الملحق الخامس حيث يخوض مواجهة الذهاب على أرضه يوم الخميس (13) نوفمبر قبل أن يسافر إلى العراق لخوض مباراة الإياب يوم الثلاثاء (18) نوفمبر وسينتقل الفائز بمجموع المباراتين إلى ما وصفه الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) ب(بطولة المباريات الإقصائية المؤهلة لكأس العالم FIFA 26) وبحسب ما أعلنته (الفيفا) ستُقام هذه البطولة المصغّرة في مارس (2026) خلال فترة التوقف الدولي الممتدة من (23 إلى 31) مارس وتضم ستة منتخبات تتنافس على آخر مقعدين في مونديال (2026) وهي منتخب واحد من آسيا (الفائز من مواجهة الإمارات والعراق) ومنتخب واحد من إفريقيا (الفائز من ملحق خاص يُقام في المغرب بين الغابون ونيجيريا والكاميرون والكونغو الديمقراطية)
ومنتخب من أمريكا الجنوبية (بوليفيا) ومنتخب من أوقيانوسيا (كاليدونيا الجديدة)
بالإضافة إلى منتخبين من منطقة الكونكاكاف (لم يُحددا بعد) ووفق النظام تخوض المنتخبات الأربعة الأدنى تصنيفًا مباريات نصف نهائية بينما يصعد المنتخبان الأعلى تصنيفًا مباشرة إلى المباراة النهائية ويتأهل الفائزان منها إلى النهائيات العالمية وكـسوداني نتمنى بصدق ألا يكون من بينهما الإمارات… الدولة الراعية للإرهاب في المنطقة وبعيدًا عن لغة الأرقام والأهداف تحوّل هذا الانتصار القطري إلى جدل سياسي وإعلامي بعد أن خرج الإعلامي الإماراتي المعروف عامر عبدالله بتصريحات هجومية مستفزة وصف فيها الجماهير السودانية التي شجّعت المنتخب القطري ب(المرتزقة) وكأنهم ارتكبوا خيانة وطنية أو انتهكوا شرف الرياضة ! وهنا يُطرح سؤال جوهري لا مفر منه من الذي خلط السياسة بالرياضة أولًا؟ هل هم الجماهير السودانية التي اتخذت موقفًا وجدانيًا طبيعيًا؟ أم هي الإمارات التي وظفت الرياضة منذ سنوات كأداة تلميع سياسي لتغطية سجلها الحقوقي الكارث ووجهها القمئ وتقديم نفسها كدولة متحضرة وحديثة؟ لقد اتخذت السلطات الإماراتية من الرياضة منذ تسعينيات القرن الماضي أحد أبرز أدوات (السلطة الناعمة) واتبعت استراتيجية واضحة لتحسين صورتها دوليًا عبر بوابة الرياضة
فمن خلال استثمارات ضخمة في الأندية والبطولات الرياضية سعت إلى تصدير صورة (دولة منفتحة ومتحضرة) بينما تخفي وراء هذه الصورة وجهًا مظلمًا فالعائلة الحاكمة في أبو ظبي تمتلك نادي مانشستر سيتي الإنجليزي وتستضيف سباق جائزة أبو ظبي الكبرى للفورمولا 1 بالإضافة إلى تنظيم العديد من الأحداث الرياضية الكبرى مثل كأس العالم للكريكيت (T20) وبطولات التنس والغولف العالمية وانتقال مجلس الكريكيت الدولي من لندن إلى دبي في (2005) مقابل أرض مجانية وإعفاء ضريبي لمدة (50) عامًا واستحواذ (طيران الإمارات) على حقوق تسمية ملعب أرسنال ورعاية أندية مثل ميلان وريال مدريد إلى جانب بطولات عالمية مختلفة
فالإمارات جعلت الرياضة حجر الزاوية في سياستها الخارجية بامتلاك وإدارة المراكز الرياضية التي تنمنح الدولة شرعية دولية ومكانة رمزية عالية بغض النظر عن سجلها في حقوق الإنسان ورغم الصورة اللامعة التي تروج لها الإمارات فإن الواقع مختلف فالممارسات القمعية ضد المعارضين والدور الإماراتي في الحرب باليمن وما تسببت فيه من سقوط آلاف المدنيين وتورطها في دعم مليشيا الدعم السريع في السودان كلها وقائع تؤكد أن السياسة الإماراتية كانت ولا تزال تُشعل الحروب وتدعم الفوضى بينما تسوّق نفسها للعالم عبر ملاعب الرياضة ورغم احتجاجات منظمات حقوقية دولية فإن الهيئات الرياضية الكبرى تتغاضى عن هذه الانتهاكات لأسباب اقتصادية بحتة إلا أن الصحف الغربية بدأت تفتح هذا الملف وتؤكد أنه مثلما تمت محاسبة روسيا رياضيًا على خلفية غزو أوكرانيا فإن اليوم الذي ستُحاسب فيه الإمارات قادم وكذلك الهيئات الرياضية التي سكتت طويلاً فالسيد عامر عبدالله الذي يدعو ل(عدم تسييس الرياضة) يبدو كمن يتجاهل حقيقة مرة
أن بلاده متورطة في واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في إفريقيا
كيف يُطلب من السودانيين الذين شُرِّدوا وقُتل ذووهم ودمّرت مدنهم أن يقفوا على الحياد تجاه دولة تُتهم رسميًا وعلنيًا بدعم ميليشيا تسببت بكل هذا الخراب؟ هل يُتوقع من السوداني أن يهتف لعلم دولة تُرسل السلاح الذي يمزق أجساد أطفال بلاده؟ أليس من الطبيعي بل من الإنساني أن يختار الوقوف مع من لم يقتله؟
ما فعله السودانيون لم يكن اصطفافًا أعمى ولا انجرارًا وراء قومية عاطفية بل هو موقف وجداني أخلاقي يعبر عن كرامة الإنسان ووعيه السياسي ورسالة واضحة مفادها (نحن نعرف من يقتلنا… ونعرف من لم يفعل) لو أتاح عامر عبدالله لنفسه الاطلاع على آلاف التعليقات التي انهالت على تصريحاته لأدرك حجم الوعي الذي تتمتع به الشعب السوداني فالشعوب اليوم لم تعد ساذجة ولم تعد تصدق روايات (الحياد) التي تُروَّج من أنظمة تمارس التسييس بأبشع صوره ثم تطلب من شعوبها عدم الخلط بين السياسة والرياضة فالشعوب باتت تفهم جيدًا من يستخدم الرياضة لتبييض الانتهاكات ومن يوظفها لترسيخ الهيمنة الناعمة ومن يحاول شراء الشرعية الدولية عبر رعاية الأندية والنجوم المؤثرين وليس حبًا في الرياضة بل هربًا من المساءلة إذا كانت بعض الحكومات تفتخر بأنها أصبحت (عاصمة القرار) في ملفات إقليمية حساسة فعليها أيضًا أن تتقبل أن تكون موضع رفض وغضب شعبي حين تنقلب هذه القرارات إلى نكبات إنسانية كما حدث في السودان وليبيا واليمن وتونس فالرياضة لا تنفصل عن السياسة وهذه حقيقة واقعة لا تمنيات طوباوية وما فعله السودانيون من تشجيعهم لقطر لم يكن إلا استفتاء وجدانيًا وأخلاقيًا قالوا فيه بكل وضوح (نحن نعرف من يقتلنا… ونعرف من لم يفعل) ولأننا نعرف فإننا نُعبّر ولأننا نُدرك فإننا نُفاضل ولأننا ما زلنا أحياء رغم كل هذا الموت والدمار فإننا نُصرّ على أن تكون لنا كلمة حتى ولو في مدرجات كرة القدم
ما لا يُدركه بعض الإعلاميين في الخليج ومنهم عامر عبدالله هو أن الشعوب لم تعد تكتفي بدور المتفرّج ولا تستهلك رسائل الإعلام الموجّه اليوم أصبح للناس رأيٌ وصوتٌ وموقف ولم تعد الوطنية تُقاس بمن تُشجّع في مباراة كرة قدم بل بمن ترفضه حين يرتكب جريمة في حقك
ومن غير المنطقي ولا المقبول أن تُمارَس بحقك أبشع صور التدخل العسكري والتمويل الدموي ثم يُطلب منك أن تبتسم وتُصفق وتهتف لمن ساهم في مأساتك
السودانيون الذين شجّعوا قطر في تلك المباراة لم يفعلوا ذلك خضوعًا لحمّى كروية مؤقتة بل كانوا يمارسون نوعًا من المقاومة الرمزية وإعلانًا وجدانيًا بأن الرياضة ليست معزولة عن الدماء التي سالت في بلادهم ولا عن المآسي التي لا تزال مستمرة لقد اختاروا الانحياز إلى من لم يطعنهم في ظهورهم
إلى من لم يُرسِل طائرات الدرون ولا شحنات السلاح إلى ميليشيا خارجة عن القانون
إلى من لا يتباهى بتمزيق السودان وشراء ولاءات الموت ولمن يصرّ على نعتهم (بالمرتزقة) نقول المرتزق الحقيقي هو من يبيع مواقفه مقابل النفوذ
أما الشعوب الموجوعة فلا تملك إلا أن تُغني بصوتها المبحوح لمن يُشبهها وتنحاز في المعارك الأخلاقية حتى وإن كانت في شكل مباراة كرة قدم والهجوم الذي شنه الإعلامي عامر عبدالله لم يكن مجرد زلة لسان عابرة بل يكشف عن أزمة أعمق عجز بعض الإعلاميين عن فهم السياق الإنساني والسياسي الذي يمرّ به السودان وشعبه فبدلًا من الانشغال بلوم جماهير موجوعة اختارت أن تبوح بوجدانها ربما كان من الأجدى التوجّه بالسؤال نحو سياسات حكومية حرقت الجسور بين الشعوب وبدّدت رصيد الأخوّة وتورّطت في دماء الأبرياء نقولها للمرة الأخيرة (الشعوب ليست آلات للتصفيق.
الشعوب لا تُملي عليها الحكومات مَن تُحب ومَن تُشجع فالشعوب ببساطة تُحب من يُحبها… وتكره من يخذلها ومن الطبيعي بل من الإنساني أن لا يُشجّع السودانيون منتخبًا يحمل علم دولة تُرسل السلاح الذي يمزّق أطفالهم) ففي النهاية الرياضة كما الحياة ليست خارج السياسة بل انعكاسٌ لها وما فعله السودانيون كان ببساطة موقفًا إنسانيًا نابعًا من ضمير حيّ… قال ما لم يقله السياسيون والإعلاميون
(نحن نعرف من يقتلنا… ونعرف من لم يفعل)