بقلم: الصحفيان الفاتح بهلول وماجدة ضيف الله
لم نكن نتوقع في يوم من الأيام أن نخرج قسرًا من مدينتنا نيالا البحير التي شببنا عليها منذ نعومة أظافرنا، فغرست فينا معاني الحب النبيل، لأن الحب هو ما تميزت به مدينة نيالا، وغدت قبلة لكل السودانيين وغير السودانيين القادمين إليها من دول الجوار، فكانت الصدر الدافئ لكل من يبحث عن الأمان ولقمة العيش الكريمة.
بيد أن الحرب التي دارت في الخامس عشر من شهر أبريل ما بين الجيش والدعم السريع، كانت سببًا في أن تفقد نيالا ذاك الألق والجمال. فلم يسلم سكان نيالا من القتل ونهب الممتلكات، علاوة على التشريد الذي لم يسلم من قسوته أحد.
لم نكن في يومٍ ما نفكر في الخروج من بلدنا، رغم سقوط الدانات المتكرر على مقربة من دارنا، الذي لم يتجاوز مكوثنا فيه الشهرين.
ولقد كنا على يقين تام بأننا سوف نكون لسان حال أهلنا بنيالا، وننقل للرأي العام كل الذي يحدث، بيد أن مساء الرابع من شهر أغسطس، وعند العاشرة ليلًا، تفاجأنا بقوة من أفراد الدعم السريع تطرق الباب، حيث كنت في تلك اللحظة داخل غرفتي، وسمعت زوجتي صوت الطرق، لأنها كانت بالخارج تتوضأ، فتساءلت: “من الذي على الباب؟”، فردّ عليها أحدهم: “نحن نريد الفاتح حماد علي بهلول”.
قالت لهم: “إنتو منو؟”
ردوا لها: “نحن دفعة الفاتح، افتحي لنا الباب”.
بعدها ذهبت إلى داخل المنزل وأخبرت شقيقتي الكبرى – فهي مقيمة معنا بالدار أيضًا – أخبرتها بأن هنالك ناس يسألون عن الفاتح، فردت إليها: “دعينا نذهب إليهم ونخبرهم بأن يأتوا في الصباح”. معلوم أن في تلك الأيام كان أهل حينا يجمعون المغرب والعشاء في المسجد بسبب المعارك التي تجري في الحي بين اللحظة والأخرى، علاوة على وجود من يأخذون حقوق المارة بعد السابعة مساءً، مما يترتب عليه عدم وجود مجال للخروج من المنزل.
بعد عرضهن عليهم هذا الأمر، تفاجأتَا بتسلق اثنين لسور البيت، وأشهرا السلاح في وجهيهما، وطلبا منهن فتح الباب. في هذه اللحظة سمعت صوت أختي وزوجتي وهنّ ترجوان الرجلين النزول من سور البيت.
خرجت من الغرفة وتحدثت معهم قائلًا: “سوف أفتح الباب لكم”، وبالفعل فتحت الباب، فوجدتهم ثلاثة أفراد من ضمن القوة التي تتمركز في الحي، وساقني أحدهم بضع خطوات، وقال لي: “أنت تعمل مع الجيش ولدينا معلومات بذلك”، شاهرًا سلاحه أمامي.
نفيت له ذلك، مؤكدًا أنني أعمل صحفيًّا، ولا علاقة لي بالجيش أو الدعم السريع أو أي مؤسسة عسكرية أخرى، ثم طلبت من زوجتي أن تجلب لي جزلاني الذي توجد بداخله كافة البطاقات التي تؤكد مهنتي. وبعد أن أخرجت له بطاقاتي، قال لي: “نحن لدينا المعلومة، ولربما تكون معلومة، والمعلومة لا تخطئ”.
في هذه الأثناء قدم إلينا جاري الذي سمع أصواتنا، بالإضافة لصوت أجزاء السلاح، وهو يتبع لقوات الدعم السريع، وأكد لهم بأن صاحب هذه الدار صحفي، وزوجته أيضًا صحفية، فليست لديهما أدنى علاقة بأي جهة عسكرية.
بعدها انصرفوا ثلاثتهم وتركونا.
في اليوم التالي، بينما كنت خارج المنزل – وكان ذلك في تمام الرابعة عصرًا – جاء لزوجتي أحد صبيان الحي، وأخبرها أن هنالك مجموعة من العساكر بالخارج، سألته: “هل الفاتح موجود أم خرج؟”
فاتصلت بي وطلبت مني أن لا أعود إلى المنزل، لأن هنالك مجموعة من العساكر تريدك. وتحدثت معي والدتي أيضًا، وطلبت مني عدم المجيء إلى المنزل.
مكثت في مكان آمن بأحد أحياء نيالا لمدة ثلاثة أيام، وكل من يعرفني كان يقول لي: “اخرج من نيالا، فأنت لست في مأمن”.
عندها قررت الخروج، ووجد هذا القرار موافقة من أفراد أُسرَتَينا. ورغم قسوة القرار، والخروج من الديار، وترك الممتلكات، إلا أنه قد كان بالنسبة لنا بمثابة حفاظ على الأرواح والأعراض، وهو خير لنا.
خصوصًا حينما كانت زوجتي قادمة من السوق وهي تمتطي ركشة، ودون سابق إنذار، وجدت نفسها وسط معركة على شارع الكنقو، وكانت الأعيرة النارية تنطلق بكل الاتجاهات، ولولا أن غيّر سائق الركشة مساره، لكنا احتسبناها إحدى ضحايا القتال العنيف الذي يدور بالمدينة.
وهذه الواقعة جعلتنا نترك منزلنا كما هو، ونستقل عربة في صبيحة العاشر من شهر أغسطس نحو مدينة الضعين، التي استغرق وصولنا إليها أكثر من ست ساعات بسبب الأمطار.
وصلنا إلى الضعين وفي معيتنا الوالدة، وشقيقتاي اللتان تكبراني، وزوجتي، وابن شقيقتي أواب.
مكثنا بالضعين من يوم 10/7 حتى يوم 25/8، لنتذوق مرارة فراق آخر، مرّ مذاقه، ألا وهو فراق الوالدة التي قضت حياتها وهي تكافح لأجلنا حتى صرنا رجالًا، وفراق الأخوات اللائي مثّلن دور الأخ الأكبر والصديق.
تفرّق جمعنا في لحظة، حيث ذهبت الوالدة والأخوات إلى مدينة سنار، بينما تركنا البقية في نيالا، ويمّمنا نحن شطر دولة جنوب السودان، لتكون لنا ملاذًا آمنًا، عبر طريق: الضعين – المجلد – النعام – ثم أبيي، ومنها إلى واو.
لنعلم بعدئذ أن منزلنا قد تمّت سرقته أيضًا، وهذا ابتلاء آخر ألمّ بنا.
فإننا على يقين أن نار الحرب التي أجبرتنا على الخروج من ديارنا ستنطفئ، مع يقيننا التام بأن الخروج نوع من أنواع الابتلاء، وحتمًا سنعود إليها كي نبنيها من جديد…
الصحفي الفاتح حماد بهلول
alfatehbhlol@gmail.com
والصحفية ماجدة ضيف الله تيراب
magda4@gmail.com