ضل الحراز:  علي منصور حسب الله

 

في خضمّ الصراع المحتدم على الأرض السودانية حيث تتقاطع المشاريع الإقليمية والدولية لم يعد ميدان المعركة مقتصرًا على الأرض أو الجو بل امتدّ إلى ساحة أخرى أشد خطرًا وأكثر تأثيرًا الإعلام لقد أصبح الإعلام في هذا السياق سلاحًا لا يقلّ فتكًا عن الطائرات والصواريخ بل يتجاوزها حين يُسخّر لتزييف الوقائع وتضليل الرأي العام المحلي والدولي وصناعة روايات موازية لا تستند إلى الواقع في هذا الإطار لا يمكن فصل ما جرى في مطار نيالا الدولي عن هذا المشهد المركب فقد نفّذت القوات الجوية السودانية عملية نوعية دقيقة استهدفت طائرة شحن عسكرية إماراتية كانت تقلّ مرتزقة من كولومبيا والإمارات بالإضافة إلى شحنات عسكرية متطورة كانت موجهة لدعم مليشيا (الدعم السريع) هذه الضربة التي لم تكن عشوائية ولا انتقامية بل عملية محسوبة ومدروسة بعناية أدت لمصرع ضابط استخبارات إماراتي رفيع و(48) مهندس كولومبي مرتزق مختصين في تشغيل الطائرات المسيرة بمطار نيالا وقد جاءت تتويجًا لتعاون وثيق بين الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن والمخابرات وسلاح الجو السوداني كقوة ثلاثية الأبعاد وقد تم تنفيذ الضربة لحظة هبوط الطائرة داخل محيط المطار بعد تتبّع استخباراتي دقيق ورصد لتحركاتها هذا النوع من الضربات يتطلب قدرة فنية وتكتيكية عالية تعكس تطورًا ملحوظًا في بنية وقدرات القوات المسلحة السودانية التي أثبتت مجددًا قدرتها على الوصول إلى الأهداف الحيوية مهما بلغت تحصيناتها أو دعمها الخارجي لكن ما إن تم الإعلان عن نجاح الضربة حتى بدأت ماكينة الدعاية التابعة للمليشيا والداعمين لها بالتحرك وكأن هناك سيناريو أُعِد سلفًا لمواجهة (إحراج الحقيقة) فجأة اشتعلت النيران في منزل بحي الرياض أحد الأحياء السكنية في نيالا وبدأت كاميرات الدعاية في تصوير (مأساة مفبركة) يُدّعى فيها أن سلاح الجو السوداني استهدف المدنيين إلا أن الحقائق كما العادة كانت أسرع في الانكشاف من الأكاذيب فالمشاهد المصورة خلت من أي آثار تدل على قصف جوي لا حفريات ولا شظايا ولا آثار صاروخية بل إن نوع النيران وطبيعة الانفجار تؤكدان أن الأمر كان ناجمًا عن إحراق متعمّد لمواد بترولية مثل الجازولين والبنزين لقد كانت محاولة لصناعة مأساة إعلامية على أنقاض الحقيقة الميدانية

رغم الضغوط الإعلامية والاستفزازات المستمرة يواصل الجيش السوداني تمسّكه بالمبادئ القتالية التي تُميز بين الأهداف العسكرية والمدنية لم يسجَّل على القوات المسلحة السودانية أي عمليات ممنهجة لاستهداف الأحياء السكنية رغم أن بعض هذه المناطق باتت تأوي عناصر مسلحة وتُستخدم كمنصات لوجستية ورغم الدعم الإقليمي الذي تتلقاه المليشيا و(الاستنفار القبلي) الذي قادته بعض القيادات الأهلية لما يُعرف بـ(حواضن الجنجويد) فإن الجيش ظل وفيًا لمبدأ أن المدنيين ليسوا هدفًا حتى وإن دعم بعضهم عن وعي أو بغير وعي مشاريع المليشيا التخريبية لكن من جهة أخرى فإن إعلان تلك الحواضن دعمها للمليشيا واستنفار أبنائها للقتال يحوّلها من فضاء مدني إلى شريك عسكري في العدوان ما يضعها قانونيًا وعسكريًا ضمن قائمة الأهداف المحتملة وفق قواعد الاشتباك المعترف بها دوليًا مصادر عسكرية مطلعة أكدت أن الضربة الجوية الأخيرة على مطار نيالا لم تخلّف فقط خسائر بشرية ومادية بل كشفت أيضًا عن حالة من الارتباك والانقسام داخل صفوف المليشيا فقد قامت قيادة مليشيا الدعم السريع باعتقال عدد من منسوبيها عقب الضربة من بينهم مسؤول نظام التشويش بالمطار بعد فشله في تعطيل أنظمة الاستهداف وفي حادثة سابقة مشابهة أقدمت المليشيا على تصفية عنصر أجنبي يشغل المنصب ذاته بعد اتهامه بالتواطؤ مع الجيش وفشله في مهامه هذه التطورات تكشف عن حالة هشاشة واختراق كبيرين داخل المليشيا وتؤكد أن الاعتماد على المرتزقة والأنظمة الأجنبية لا يحمي من الضربات الدقيقة بل يضيف عبئًا استخباراتيًا وتكتيكيًا قابلًا للاستثمار

الضربة التي استهدفت الطائرة العسكرية الإماراتية وأسفرت عن مقتل نحو (48) مرتزقًا كولومبيًا لم تمر دون تداعيات دولية فقد خرج الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو بتصريحات لافتة وصف فيها ظاهرة الارتزاق بأنها (شكل حديث من أشكال الاتجار بالبشر يُحوَّل فيه الرجال إلى سلع للقتل) ورغم أنه لم يُسمِّ دولة الإمارات بالاسم إلا أن التصريحات جاءت بعد دقائق من إعلان التلفزيون القومي السوداني عن تنفيذ الضربة الجوية كما كلف بيترو سفارة بلاده في مصر نظرًا لغياب تمثيل دبلوماسي في السودان بمتابعة التحقيقات والتنسيق بشأن نقل الجثامين وأكد بيترو أن هؤلاء المرتزقة (يُقتلون في حروب لا علاقة لهم بها ضد دول لم تؤذهم) وأضاف بأن من نسّقوا عمليات الارتزاق من الداخل الكولومبي قد خانوا مبادئ سيمون بوليفار ومن اللافت أن الرئيس الكولومبي اختار تأطير الأزمة كإخفاق قانوني وأخلاقي داخلي دون الاصطدام مباشرة مع الإمارات ما يعكس حجم النفوذ الاقتصادي الذي باتت تملكه أبوظبي في كولومبيا خاصة بعد توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) عام 2022

لقد كشفت ضربة مطار نيالا عن عدة حقائق استراتيجية وسياسية وأخلاقية فعلى المستوى العسكري أكدت قدرة الجيش السوداني على تنفيذ عمليات دقيقة ومؤثرة في عمق العدو وعلى المستوى السياسي أظهرت أن الروايات الزائفة مثل (مسرحية حي الرياض) لم تعد قادرة على تمرير الأكاذيب على وعي الشارع السوداني الذي أصبح يفرّق بين الضحية الجلاد بين الحقيقة والمونتاج أما على المستوى الدولي فقد فتحت الضربة نقاشًا حساسًا حول تجارة المرتزقة ودور دول الخليج خاصة الإمارات في إعادة تدوير الحروب في إفريقيا عبر أذرع خفية مستخدمة المال والنفوذ وأحيانًا الدين لتحقيق مصالحها الاستراتيجية لكن المؤكد أن الدماء الطاهرة لا يمكن أن تُغسل بالكاميرات المفبركة وأن المعارك الحقيقية لا تُحسم في غرف الإعلام بل على الأرض حيث تُكتب الحقائق بدماء الشرفاء لا بحبر المرتزقة

Exit mobile version
Share via