ضل الحراز:  علي منصور حسب الله

في خضم الفوضى التي يعيشها السودان منذ اندلاع الحرب بين الجيش الوطني وميليشيا الدعم السريع برزت محاولات من الأخيرة لفرض واقع سياسي جديد عبر إنشاء سلطة بديلة في مناطق سيطرتها ورغم الغطاء الدعائي الذي تحاول هذه الميليشيا إضفاؤه على مشروعها فإن تجربة ما يُمكن تسميته بـ(حكومة ميليشيا الدعم السريع) تُعد فاشلة منذ لحظة الإعلان عنها

ليس فقط لأنها تفتقر إلى الشرعية بل أيضًا لأنها تقوم على أسس بنيوية وأخلاقية مهترئة وتفتقد إلى مقومات الدولة الحقيقية من حيث التخطيط السياسي والاستناد المجتمعي والتماسك الداخلي والدعم الخارجي في هذا المقال نحلل أسباب فشل هذه التجربة من خلال عدد من المحاور الأساسية أولها غياب الاعتراف الدولي والعزلة الإقليمية

فمن أبرز مؤشرات فشل أي (سلطة أمر واقع) هو غياب الشرعية الدولية فميليشيا الدعم السريع رغم محاولاتها لاستقطاب دعم بعض القوى الإقليمية تظل مصنفة كـ(ميليشيا متمردة) من قبل الحكومة السودانية المعترف بها دوليًا وهو ذات الموقف الذي تتبناه غالبية الدول الفاعلة والمنظمات الدولية هذا العزل الدولي يحرم المليشيا من الانخراط في النظام العالمي ككيان سياسي مشروع ويمنع عنها فرص التمويل والاستثمار والدعم الإنساني أو حتى فتح قنوات دبلوماسية فاعلة وفي ظل وضع اقتصادي هش كالوضع في السودان فإن غياب هذا الاعتراف يُعد حكمًا بالإفلاس السياسي والإداري منذ البداية حتى القرارات الرمزية مثل إعلان المدعو محمد حسن التعايشي تعيين القاضي الدكتور القوني مصطفى أبو بكر شريف مندوبًا دائمًا للسودان لدى الأمم المتحدة تفتقر إلى أي أثر واقعي طالما أن هناك مندوبًا معترفًا به رسميًا من المنظمة الدولية وثاني تلك الأسباب تتمثل في العزلة المحلية وانعدام الشرعية المجتمعية إذ لا يقتصر انعدام الشرعية على المستوى الدولي بل يمتد محليًا أيضًا فالمجتمع السوداني بمختلف مكوناته الجغرافية والقبلية والسياسية لا يرى في مليشيا الدعم السريع كيانًا سياسيًا شرعيًا بل تعتبرها قوة عسكرية فرضت نفسها بالقوة والدمار والدم لان الانتهاكات التي ارتكبتها المليشيا بحق المدنيين من قتل واغتصاب ونهب خلقت فجوة ثقة هائلة ليس فقط مع الخصوم بل حتى مع المجتمعات المحلية في المناطق التي تزعم السيطرة عليها هذا الرفض الشعبي يجعل من أي مشروع (حكم) تقوده هذه المليشيا فاقدًا لأي عمق اجتماعي أو استقرار مجتمعي بل يكرّس الانقسامات ويفاقم الكراهية والانقسام الأهلي وثالثها الانقسام القبلي والتشظي الداخلي حيث تفتقر مليشيا الدعم السريع إلى البنية الوطنية أو المؤسساتية إذ إنها تأسست على قاعدة قبلية ضيقة تُغذّى بالولاءات العشائرية والمناطقية تتكوّن هذه القوات من مجموعات تنتمي إلى قبائل وفخوذ متفرقة كلها من غرب السودان وكل مجموعة تحتفظ بولائها لقيادتها القبلية أكثر من أي انتماء (وطني) مفترض هذا البناء الهش والمتفجر خلق بيئة داخلية مشبعة بالتوترات والعداوات ما يفسر الاشتباكات المتكررة بين مكونات الميليشيا لأسباب تتراوح بين تقاسم الغنائم والخلاف على مناطق النفوذ والثأرات القبلية التاريخية ومع استمرار الحرب تتفاقم هذه الصراعات وتُضعف التماسك الداخلي ما يجعل فكرة بناء جهاز حكم موحد ومستقر أمرًا مستحيلًا عمليًا ورابعها التناقض الأيديولوجي بين الحلفاء فقد تحالفت المليشيا مع مجموعات مدنية وسياسية ذات خلفيات متباينة تمامًا جمعتها فقط الرغبة في إسقاط الجيش والدولة المركزية لكن هذا التحالف هش فكريًا ومتناقض أيديولوجيًا

في داخله منسوبو التيار الإسلامي ممن كانوا جزءًا من نظام المؤتمر الوطني المحلول قفزوا من السفينة الغارقة إلى (مركب الدعم السريع) طمعًا في العودة للسلطة تحت أي غطاء وقوميون عرب بتوجهات شمولية ذات نظرة سلطوية وشعارات عروبية وتيارات وسطية تجمع ما بين الشعارات الاسلامية والردكالية وعلمانيون ويساريون يعتبرون التحالف مع الدعم السريع وسيلة لكسر هيمنة الجيش هذا الخليط المتنافر في الرؤية والمصلحة يجعل من أي (حكومة) تتشكل تحت هذا الحلف مجرد واجهة مفككة متنازعة غير قادرة على إدارة ذاتها فضلًا عن إدارة البلاد كل طرف في هذا التحالف ينظر للمليشيا كأداة مؤقتة لتحقيق مصالحه الخاصة وحين تنتهي تلك المصلحة يبدأ الصراع الداخلي وخامس الأسباب تتمثل في تآكل البنية الأخلاقية والسياسية فمنذ اندلاع الحرب ارتبط اسم مليشيا الدعم السريع بممارسات وحشية ومنهجية من قتل جماعي واغتصاب ممنهج

ونهب ممتلكات وحرق قرى وتهجير سكان وتجنيد أطفال وتجنيد قسري للمدنيين وكل هذه الأفعال تُفقد المليشيا أي رصيد أخلاقي يمكن أن يُبنى عليه أي مشروع شرعي بل إنها باتت رمزًا للدمار والفوضى في مناطق سيطرتها بدلًا من أن تكون نموذجًا إداريًا بديلًا والدليل على ذلك خروج مواكب تندد بانتشار المخدرات والاخلال الأمني في عدد من المدن منها الضعين

وتُظهر التقارير القادمة من دارفور وكردفان انهيارًا تامًا في الخدمات وغيابًا لأي نموذج للحكم سوى منطق (الفرز القبلي) والولاء للمليشيا وهذا يعني أن أي حكومة تخرج من رحم هذه المليشيا ستكون استمرارًا للكارثة لا مخرجًا منها وسادسها غياب المشروع السياسي

إذ لا تملك مليشيا الدعم السريع وقادتها وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو (حميدتي) وحليفه الجديد عبد العزيز آدم أبكر هارون (عبد العزيز الحلو) وبعض أحزاب المعارضة أي مشروع سياسي حقيقي لبناء دولة وما يحرك هذا التحالف هو الطموح الشخصي للسلطة والمال والنفوذ والانتقام من الحركة الإسلامية لا أكثر هيمنة جهات خارجية على قراراتها وتوجهاتها

حتى خطاباتهم لا تتضمن أي تصورات لهيكل الدولة أو نظام قضائي أو رؤية اقتصادية أو إدارة للخدمات بل مجرد شعارات شعبوية سطحية تُغلف بلغة عاطفية وهتافات لا تحمل أي مضمون لا يمكن لأي كيان أن يُقيم دولة أو حتى إدارة محلية فعالة بدون مؤسسات حقيقية

ورجال دولة أكفاء ورؤية متكاملة للبناء والتنمية

وإذا قمنا بإجراء مقارنات مع تجارب الحكم الموازي للتأكيد على فشل هذه التجربة يمكن مقارنتها مع تجارب أخرى مشابهة مثل نماذج الحكم الموازي في كل من اليمن حيث الحوثيون في الشمال المجلس الانتقالي في الجنوب وليبيا حيث حكومة الشرق بقيادة (حفتر) مقابل حكومة الغرب (طرابلس) بقيادة عبد الحميد الدبيبة وميانمار التي بها حكومة الوحدة الوطنية

تُدير البلاد من المنفى وهي تمثل الحكومة الشرعية لميانمار وحكومة الانقلاب العسكري الذي جري في 1 فبراير 2021 عندما استولى جيش ميانمار على السلطة معتقلًا القادة المنتخبين وذوي النفوذ السياسيين مثل أونغ سان سو تشي

فحكومة الظل تشكّلت من الأحزاب السياسية المنتخبة بما في ذلك الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية ولجنة تمثيل البرلمان التي تُعتبر الحكومة الشرعية من قبل مؤيديها ومجموعات عرقية مسلحة أما فيها حكومة فيدرالية بقيادة حسن شيخ محمود وحكومة بونتلاند بقيادة سعيد عبد الله دني وحكومة جوبالاند بقيادة أحمد محمد إسلام الذي يُعرفزباسم أحمد مادوبي

ورغم اختلاف السياقات إلا أن كل هذه الكيانات تعاني من مشكلات هيكلية مشابهة منها غياب الاعتراف الدولي والتمويل غير المستدام

والانقسامات القبلية والمناطقية والتوتر مع الدولة المركزية والتدخلات الخارجية (مثل كينيا، إثيوبيا، الإمارات في حالة الصومال) ففي حالة بونتلاند وجوبالاند، رغم اعتراف الحكومة الفيدرالية بهما جزئيًا إلا أنهما تتصرفان باستقلال شبه تام مما يجعلهما أقرب إلى (حكم موازٍ) أما أرض الصومال فقد أعلنت استقلالها من طرف واحد منذ عام 1991 دون أي اعتراف دولي ومع أنها تُظهر تماسكًا نسبيًا داخليًا إلا أنها لا تزال خارج المنظومة الدولية وتعاني من عزلة سياسية ومحدودية الموارد واعتماد شبه كلي على التحويلات الخارجية أما في حالة حركة الشباب فنحن أمام نموذج مسلح للحكم الموازي يقوم على أيديولوجيا دينية متشددة ويفرض (إدارة) صارمة في بعض المناطق لكنه إدارة تقوم على الرعب والإرهاب ولا يمكن وصفها إلا كحالة من التوحش الممنهج باسم الشريعة ما يجمع بين هذه التجارب جميعًا من الحوثيين إلى حفتر ومن الكيانات الصومالية إلى المعارضة المسلحة في ميانمار هو أن السلطات الموازية تفشل دائمًا حين تفتقد إلى أحد أمرين على الأقل الشرعية السياسية والشعبية والمقومات المؤسسية الحقيقية لبناء الدولة

كذلك يجب ان نضع في الحسبان هشاشة البنية التحتية وتحديات الامتداد الجغرافي

فمن التحديات الجوهرية أمام ما يسمى بـ(حكومة مليشيا الدعم السريع) هو انعدام البنية التحتية في المناطق التي تزعم السيطرة عليها سواء من حيث المؤسسات أو الكوادر أو الخدمات الأساسية فلا وجود لهيكل إداري واضح ولا خطوط فاصلة للحدود الإدارية ولا قدرة على تقديم خدمات عامة ولا قاعدة بيانات ولا جهاز دولة ولا جهاز قضائي أو تشريعي بل الأكثر من ذلك حتى الولاء الشعبي في تلك المناطق مشكوك فيه إذ تقوم العلاقة بين السكان والمليشيا على الخوف والانصياع القسري لا على القبول الطوعي أو القناعة السياسية وحتى فكرة التمدد إلى مناطق جديدة مثل كاودا معقل عبد العزيز الحلو الحليف العقائدي الجديد لحميدتي تطرح إشكاليات خطيرة فالحلو نفسه يتبنى مشروع (السودان الجديد) وهو مشروع علماني ديمقراطي يُفترض أنه يتناقض أيديولوجيًا وأخلاقيًا مع ميليشيا ذات طابع قبلي وممارسات دموية وعلاقات مشبوهة بأطراف خارجية فهل سيقبل الحلو بتحويل مشروعه السياسي إلى أداة في يد حميدتي؟ وهل يمكن دمج حركة شعبية تحمل طموحًا تاريخيًا في كيان مليشياوي بلا مشروع؟ هذا التناقض العميق يجعل أي تحالف بينهما قنبلة موقوتة ستنفجر عاجلًا أو آجلًا

فهي حكومة ولدت ميتة وفوضى بلا نهاية خلاصة القول إن ما يُسمى بـ(حكومة مليشيا الدعم السريع) ليس مشروعًا سياسيًا ولا حتى كيانًا إداريًا قابلًا للحياة بل هو امتداد لفوضى السلاح وتحالفات المصالح وشهوة السلطة هذا الكيان لا يمتلك أي اعتراف دولي ويفتقد إلى الشرعية الشعبية.

وهو كيان قائم على بنية قبلية هشة تغذّيه انتهاكات ممنهجة ضد المدنيين ويعاني من تناقضات أيديولوجية وانقسامات داخلية.

ويفتقر إلى أي مشروع لبناء دولة أو حتى إدارة.

ومهما حاولت المليشيا إعادة تسويق نفسها عبر تعيينات صورية أو تحالفات وقتية أو شعارات زائفةوفإن الواقع أقوى من الدعاية والتاريخ لا يرحم من بنى سلطته على الدم والدمار

إن التجربة فشلت قبل أن تبدأ لا لأنها لم تجد دعمًا دوليًا فقط بل لأنها لا تستحق ذلك الدعم أصلًا فهي تقوم على أساس خاطئ وتحاول إقناع العالم والمجتمع السوداني بـ(حكم) لا يملك من مقومات الحكم سوى السلاح والعنف

وفي النهاية فإن أي (حكومة) بلا أخلاق بلا مشروع بلا مؤسسات وبلا شعب… ستسقط حتمًا ولو بعد حين.

وسيبقى السودان وطنًا للجميع… لا مزرعةً للمليشيات

Exit mobile version