صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
إذا سألت أحد البسطاء عن سبب حرب أبريل 2023 فلم يتردد عن الإجابة وسيقول لك ببساطة ” أنه صراعاً بين (البرهان وحميدتي) عسكري ومليشي اختلفت مصالحهم حول السلطة” لكن المفكر الخبير بدهاليز السياسة السودانية، يدرك أن الحرب لم يشعلها الجيش، بل كانت تجسيد دامي لانهيار مشروع الدولة الوطنية الذي بدأ متعثراً منذ استقلال البلاد عام 1956.
وقد بات السودان يواجه أكبر أزمة إنسانية في العالم، وتتآكل مؤسساته تحت وطأة القتال، صار من الضروري النظر إلى ما هو أبعد من الأعراض للوصول إلى جذور المرض الحقيقي وهو الدور السلبي الذي لعبته النخب والأحزاب السياسية التقليدية في إدخال البلاد في حلقة مفرغة من الفشل.
منذ فجر الاستقلال، ورثت النخب السودانية دولة مركزية لم تحاول تكييفها لتعكس التنوع الهائل للبلاد، بل حصرت الصراع السياسي في دائرة ضيقة حول السلطة والثروة في الخرطوم. هذا الصراع الصفري، الذي غابت عنه الرؤى الوطنية الجامعة، حوّل السياسة إلى لعبة استقطاب حادة… وعندما كانت الديمقراطية الوليدة تعجز عن تلبية طموحاتهم، لم تتردد هذه النخب في استخدام المؤسسة العسكرية كأداة لتحقيق مآربها… وهذه لم تكن تهمة أطلقتها جزافاً على الأحزاب، فقد سبقني إليها المفكر السوداني الدكتور منصور خالد في مجلداته ” النخب السودانية وإدمان الفشل” وصاغها مفكرون كثر في قوالب مختلفة: ندوات، محاضرات، تصريحات… آخرها كانت أقوال الدكتور أمين حسن عمر المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
إن تاريخ السودان الحديث هو، في جوهره، تاريخ العلاقة السامة بين السياسي والعسكري. لم تكن الانقلابات العسكرية، التي بلغت 19 محاولة ناجحة وفاشلة، مجرد استيلاء على السلطة بقوة السلاح، بل كانت في كثير من الأحيان نتيجة مباشرة لتحريض أو تواطؤ من قوى مدنية.. انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958 جاء كـ”تسليم وتسلم” من حكومة ديمقراطية أنهكتها الصراعات الحزبية.. وحتى انقلاب عمر البشير عام 1989، الذي أسس لأطول دكتاتورية في تاريخ البلاد، كان واجهته السياسية حزباً أيديولوجياً سعى للسيطرة على مفاصل الدولة عبر الجيش.. هذه الشراكة غير المقدسة أفرغت المؤسسة العسكرية من عقيدتها الوطنية، وحولتها إلى حارس لمصالح النخبة الحاكمة، وأجهضت كل فرصة لترسيخ الممارسة الديمقراطية.
جاءت إنتفاضة ديسمبر 2018 كصرخة شعبية ضد هذا الإرث الثقيل، لكن للأسف، سرعان ما عادت النخب السياسية إلى ممارسة ألاعيبها القديمة.. فبدلاً من التوحد خلف أهداف الجماهير الثائرة في بناء دولة مدنية ديمقراطية وإصلاح القطاع الأمني، انقسمت القوى المدنية على نفسها، ودخلت في محاصصات ومساومات أضعفت موقفها وفتحت الباب على مصراعيه لانقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي مهد بدوره للحرب الكارثية الحالية.. لقد أثبتت هذه النخب أنها غير قادرة على التعلم من أخطاء الماضي، وأن بقاءها في المشهد هو استمرار للأزمة ذاتها.
رغم المأساة إلا أن في الأفق فرصة تاريخية قد لا تتكرر.. لقد كشفت الحرب عن فشل النموذج القديم للدولة بشكل لا يقبل الجدال.. إن بناء سودان آمن ومستقر، طبعاً ذلك بعد حسم الجيش حربها ضد المليشيات، التي تورطت في جرائم خطيرة ضد الإنسانية، يصعب تجاوزها حتى عن طريق تسوية سياسية.
يتطلب من الحكومة الشرعية ممثلة في القائد العام للجيش الفريق البرهان ورئيس الوزراء كامل إدريس الترتيب لقرارات جريئة وصادمة.. على مقدمة لائحتها تجميد نشاط جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية الحالية لفترة انتقالية محددة، أو حلها نهائياً ووضع معايير جديدة أكثر صرامة في تأسيس التنظيمات والأحزاب وربطها بالمصالح الوطنية ومصالح جماهيرها.
هذا الإجراء ليس دعوة للدكتاتورية، بل هو ضرورة قصوى لخلق مساحة وطنية خالية من الاستقطاب، تتيح للسودانيين فرصة للالتفاف حول مشروع وطني جامع.. فترة انتقالية تقودها حكومة كفاءات وطنية مستقلة، تركز على وقف الحرب، ومعالجة الأزمة الإنسانية، وتأسيس جيش قومي واحد، ووضع دستور جديد يعيد هيكلة الدولة على أسس المواطنة المتساوية والتوزيع العادل للسلطة والثروة.
إن حل الأحزاب السياسية ليس هدفاً بحد ذاته، بل هو وسيلة لإزالة العقبة الأكبر أمام تقدم السودان.. بعد فترة انتقالية ناجحة، يمكن للحياة السياسية أن تعود من خلال قوانين جديدة تضمن عدم تكرار أخطاء الماضي، وتمنع عودة الوجوه التي أوصلت البلاد إلى هذا الدرك.. إن مستقبل السودان مرهون بقدرته على التحرر من إرثه السياسي الثقيل، والخطوة الأولى على هذا الطريق الطويل هي تفكيك الأدوات التي استخدمت لتعطيل تقدمه على مدى عقود.