ظل الحراز:  علي منصور حسب الله

 

نعت الأوساط السياسية والإعلامية وعلى رأسها المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي السياسي والقيادي السابق في حركات الكفاح المسلح الدكتور إبراهيم موسى زريبة الذي وُصف رحيله بـ(المفاجئ) و(الغامض) وسط غياب أي توضيحات رسمية حول طبيعة الوفاة وتزايد الشكوك حول تورط جهات ذات صلة بمليشيا الدعم السريع في تصفيته خاصةً وأنه كان في مرحلة خلاف عميق مع بعض مراكز النفوذ داخل التحالف السياسي والعسكري للمليشيا زريبة الذي عرفته الساحة السياسية السودانية منذ سنوات كأحد القيادات الفاعلة لعب أدوارًا محورية في مراحل السلام قبل أن ينخرط لاحقًا في تحالفات أثارت جدلاً واسعًا حول خلفياتها ودوافعها كان أبرزها تحالف تجمع القوى المدنية المتحدة (قمم) الذي وُصف بجناح الدعم السريع السياسي قبل أن تتوتر العلاقة بينه وبين قيادات المليشيا بشكل غير معلن ثم تتفجر في سلسلة من الوقائع انتهت على ما يبدو باغتياله في العاصمة الأوغندية كمبالا

الدكتور إبراهيم زريبة لم يكن مجرد سياسي طارئ على المشهد بل كان فاعلاً بارزًا في مسيرة حركات الكفاح المسلح في السودان لا سيما من خلال موقعه داخل حركة تجمع قوى تحرير السودان بقيادة الطاهر حجر حيث تولى مسؤوليات تفاوضية مهمة في مسار سلام الدوحة ثم برز لاحقًا كأحد كبار مفاوضي الجبهة الثورية في اتفاق جوبا للسلام 2020م ورغم ما بدا حينها من التزامه بالمسار السلمي فإن تحوّله نحو تحالف (تقدم) ومن ثم انسلاخه مع عدد من الفاعلين السياسيين من الدعم السريع حيث كوّنوا تحالف (قمم) بالشراكة مع القيادي الجنجويدي هارون مديخير شكّل نقطة انعطاف مثيرة للجدل إذ رأى فيه البعض محاولة من الدعم السريع لإنتاج واجهة سياسية تُغلّف مشروعها العسكري بطابع مدني خاصةً مع تزايد الضغوط الدولية وتكشّف حجم الانتهاكات الميدانية التي تورّطت فيها المليشيا في دارفور والخرطوم والجزيرة ومناطق أخرى لكن (قمم) ومنذ لحظة ولادته بدا هشًا وغير قادر على فرض نفسه كفاعل سياسي جاد بسبب تضارب الولاءات الداخلية وانعدام التمويل وغياب أي رؤية سياسية متكاملة بالإضافة إلى عدم إيمان عبد الرحيم دقلو نائب قائد الدعم السريع بجدوى هذا التحالف مما جعل قياداته في مهب الريح في مارس 2025م خضع زريبة لتحقيقات أمنية مطوّلة في العاصمة الكينية نيروبي بعد أن اتُّهم بإجراء اتصالات غير مصرح بها مع قوى سياسية غير منسجمة مع الدعم السريع وإن كانت داعمة كحال تحالف صمود أو مناوئة لها كحال الكتلة الديمقراطية التي يرأسها المرشال مني أركو مناوي وذلك خلال زيارة إلى الدوحة لم تُبلغ بها قيادة المليشيا مسبقًا وبحسب مصادر مطلعة فقد رصدت المخابرات الإماراتية تلك التحركات وأبلغت الجهات المعنية ليتم لاحقًا استدعاء زريبة وإجراء تحقيق طويل معه أعقبه (طلب ودي) بتقديم استقالته من قيادة (قمم) وهو ما تم بعد وساطة عدد من الشخصيات المحسوبة على الدعم السريع أبرزهم محمد المختار وهارون مديخير وعز الدين الصافي وود أحمد (رئيس حركة الإصلاح والنهضة) هذه الحادثة كانت مؤشرًا واضحًا على تدهور العلاقة بين زريبة والمليشيا وتحولها من شراكة سياسية إلى حالة من العداء المكتوم خصوصًا مع شعور قيادة الدعم السريع بأن زريبة بدأ يتصرف باستقلالية خطيرة وهو ما يُعتبر تجاوزًا غير مقبول داخل المنظومة التي تفرض طاعة مطلقة وتعمل على تصفية كل من يشذّ عن الخط المحدد أمس الأول تم الإعلان عن وفاة زريبة في ظروف غامضة بالعاصمة الأوغندية كمبالا دون بيان رسمي من أي جهة ودون معلومات موثوقة حول ملابسات الوفاة وبينما التزمت عائلته الصمت تداولت مصادر قريبة من الكتل السياسية الناشطة في كمبالا أن الوفاة ليست طبيعية بل تأتي في سياق حملة ممنهجة لتصفية شخصيات سياسية وعسكرية لم تعد موالية بشكل مطلق لقيادة الدعم السريع وتشير المعطيات إلى أن زريبة ليس أول من يلقى حتفه بهذه الطريقة فقد سبقه في ذات المدينة محمد عبد الله ود أبّوك المستشار السياسي السابق لحميدتي والذي أُعلن عن مقتله في حادث يُعتقد أنه عملية اغتيال فيما تعرّض اللواء أحمد بركة الله أحد القادة الميدانيين في الدعم السريع للتصفية في نيالا جنوب دارفور وكذلك اعتقال العميد عباس كتر بخيت قائد استخبارات المليشيا بقطاع شمال دارفور تحت زريعة تسريب معلومات أو التواصل مع قادة المشتركة بعد سلسلة من الهزائم التي منيت بها المليشيا وفي لحظة غضب تفوّه بدرّان العجيزي وهو أحد الناشطين في صفوف المليشيا عقب نجاته من محاولة اغتيال بأنه سيكشف جميع من تمت تصفيتهم من الداخل ومن قام بتلك التصفيات كما أُعتقل عدد من أبناء بيوت الإدارة الأهلية واليوم يُقال إن سجن دقريس في نيالا ملئ بمعتقلي المليشيا من داخل صفوفها بتهمة تسريب معلومات عن تحركاتها وحتى المرتزقة الأجانب الذين يعملون ضمن صفوف المليشيا لم يسلموا حيث تمّت تصفية بعضهم وما حادثة تصفية الكولومبي بمطار نيالا ببعيدة وهناك همس يدور بأن كثيرًا من القادة مثل رحمة الله جلحة قد تمت تصفيتهم فيما هرب البعض لينجو بنفسه مثل إبراهيم بقال وأبو الجود المسيري وأنور كوشيب وغيرهم وسط صمت رسمي مطبق من قبل قادة مليشيا الدعم السريع فما يجري داخل المليشيا يبدو أكثر تعقيدًا مما يظهر في المشهد الإعلامي فالمليشيا التي كانت تُقدّم نفسها ككيان موحد تشهد اليوم صراعات أجنحة عميقة تنعكس في شكل تصفيات داخلية وانشقاقات وتنافس على النفوذ خاصةً في ظل الانفلات الأمني وتضخّم النفوذ الاقتصادي لبعض القادة وترجّح بعض التحليلات أن زريبة بما امتلكه من علاقات سياسية متعددة وطموح في صناعة مسار مدني مستقل كان يمثل تهديدًا مركبًا للمليشيا سياسيًا وأمنيًا وبالتالي فإن (خروجه من المعادلة) كان ضرورة داخل حسابات بعض قادة الدعم السريع الذين لا يترددون بحسب مراقبين في استخدام القتل السياسي كأداة لضبط الولاء فبعد اغتيال زريبة، يعيش تحالف (قمم) حالة من الشلل والانهيار البطيء بسبب غياب القيادة وتفكك القاعدة وتضارب المصالح بين أعضائه كلها مؤشرات على فشل المشروع الذي لم يحظَ منذ البداية برعاية جدية من قادة الدعم السريع وعلى رأسهم عبد الرحيم دقلو الذي لم يُبدِ حماسًا لأي مسار سياسي يشارك فيه مدنيون أو حتى موالون خارج دائرة الثقة الضيقة

فهل كانت تصفية زريبة بمثابة إعلان وفاة رسمي لتحالف (قمم؟) أم أن المليشيا ستعيد تشكيل التحالف لاحقًا ولكن بقيادات أكثر ولاءً وأقل طموحًا؟ الإجابة تعتمد على مسار الصراع الداخلي داخل المليشيا وعلى طبيعة الدور الإقليمي في إعادة هندسة التحالفات السودانية بما يخدم مصالح الدول الفاعلة.

واللافت في حادثة زريبة وما سبقها من اغتيالات أن الصراع داخل الدعم السريع لم يعد حبيس دارفور أو كردفان بل بات يُدار في العواصم الإقليمية مثل نيروبي وكمبالا وأديس أبابا حيث تدور خلف الكواليس معارك أجهزة استخبارات وصراعات نفوذ وتبادل معلومات تُستخدم كذخيرة في التصفيات وتُنفّذ بصمت واحترافية بعيدًا عن الأضواء في هذا المشهد الإقليمي المتداخل لا يمكن تجاهل الأدوار التي تلعبها دول مثل الإمارات وتشاد وكينيا وجنوب السودان وليبيا وإفريقيا الوسطى وإثيوبيا سواء عبر التمويل أو الدعم اللوجستي أو التسهيل السياسي لبعض الشخصيات المرتبطة بالمليشيا إذ بات من الواضح أن هناك مصالح تتقاطع وأخرى تتعارض ضمن ساحة إقليمية مفتوحة على كل الاحتمالات رحيل إبراهيم زريبة إذا ما ثبت أنه اغتيال يمثل تحولًا مفصليًا في مسار الحرب السودانية لأنه ليس اغتيالًا لشخص فحسب بل اغتيال لفكرة فكرة أن للمليشيا جناحًا سياسيًا يمكن أن يتحرك بمرونة خارج الأوامر العسكرية وبهذا فإن الرسالة التي أرادت قيادة الدعم السريع إيصالها وصلت بوضوح لا مجال للحياد ولا مكان للمناورة ومن يخرج عن الخط سيُقصى أو يُغتال وما يزيد من خطورة هذا الاتجاه أن أدوات التصفية لم تعد مقتصرة على المواجهة المباشرة بل تشمل أساليب الحرب النفسية والإقصاء الإعلامي والتشهير وربما حتى استخدام الأنظمة القضائية في بعض الدول عبر حملات موجهة لتجريم المعارضين أو منعهم من الحركة ومن هذا المنطلق فإن ما جرى مع زريبة يفتح الباب واسعًا للتساؤل هل باتت التصفيات السياسية والأمنية هي الآلية المعتمدة داخل المليشيا لإدارة الخلافات؟ وإلى متى ستصمت الدول المضيفة التي تحدث على أراضيها مثل هذه الاغتيالات في وضح النهار؟ وهل نحن أمام موجة جديدة من الحرب الخفية التي تُدار بعيدًا عن الميدان ولكن نتائجها لا تقل دموية عن القصف والانفجارات؟ في ظل هذه الأسئلة يبدو أن الساحة السياسية المرتبطة بالدعم السريع تعيش أزمة شرعية داخلية متصاعدة إذ لم تعد الولاءات ثابتة ولا التحالفات موثوقة والمشاريع السياسية التي نشأت كمجرد (واجهات مدنية) بدأت تنهار الواحدة تلو الأخرى لأن من صمّمها لم يكن يؤمن بها بل استخدمها كأدوات ضغط دولي أو قنوات تمويل خارجي ومع غياب أي مساءلة حقيقية ووسط تواطؤ إقليمي واضح فإن احتمال تكرار سيناريو زريبة وارد جدًا وقد يكون زريبة هو أول الغيث في سلسلة طويلة من التصفيات التي ستطال السياسيين والعسكريين وربما الإعلاميين والناشطين كل من حاول أن يقرأ المشهد السوداني بطريقة مختلفة أو حاول طرح بديل عن (حكم بندقية مليشيا الدعم السريع) بل الأكثر إيلامًا أن زريبة، الذي قضى سنوات في ساحات الكفاح المسلح ثم جلس على طاولة التفاوض في الدوحة وجوبا انتهى به المطاف ضحية لصراع داخل بيته السياسي الجديد الذي دخل إليه وهو يظن أنه سيكون منصة مدنية تُحدث التوازن فإذا به يكتشف أن اللعبة أكبر منه وأخطر من قدرته على المناورة فإن اغتيال زريبة أو وفاته في ظروف غامضة لا يمكن أن يُقرأ كحدث معزول بل هو مرآة لانهيار المشروع السياسي للدعم السريع من الداخل مشروع وُلد مشوهًا ومات قبل أن يرى النور الحقيقي مشروع لم يتحمّل صوتًا مختلفًا حتى ولو كان من صفوفه ولذلك فإن الأسئلة القادمة أكثر إيلامًا من الحادثة نفسها على شاكلة من القادم في سلسلة التصفيات؟ وهل سينجو أي صوت مستقل أو حتى (نصف مستقل) من قبضة المليشيا؟ وهل من أفق لبناء مشروع سياسي حقيقي في السودان خارج (قبضة السلاح) أم أن كل محاولة ستُقبر كما قُبر زريبة؟ ما جرى مع إبراهيم زريبة ليس مجرد وفاة…بل هو تحذير أخير لكل من ظن أن بإمكانه السير في غابة من الشوك دون أن تلسعه الاشواك

Exit mobile version