صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي

 

لم تعد الفاشر، عاصمة شمال دارفور، سوى ظل باهت، لمدينة كانت تتنفس بصعوبة تحت ركام الخوف والدمار. وقد ارتدت ثوب الحداد، اكتست شوارعها غبار الخوف والصمت المطبق الذي لا يكسره إلا دوي القذائف البعيدة أو صرخات مكتومة لمدنيين محاصرين.

تحت وطأة احتلال مليشيات الدعم السريع الإماراتية، تحولت أسواقها لركام من الذكريات، والمنازل لأقفاص موصدة، والساحات العامة إلى مسارح للتنكيل والعبث.

كل زاوية في الفاشر اليوم تروي حكاية مأساة، وكل ظل يمر يحمل ذكرى حياة سُلبت بعنف ووحشية… إنها مدينة فقدت روحها، وباتت أسيرة في قبضة من لا يعرفون للرحمة سبيلاً، حيث يشرق فجر كل يوم على آلاف المدنيين الذين تحولوا إلى رهائن، ينتظرون بصيص أمل يلوح في أفق غائم، بينما العالم يكتفي بالمشاهدة والصمت.

لقد تبدلت ملامح المدينة، وتحول الحصار إلى سجن كبير، يضيق الخناق فيه على أكثر من 12 ألف مدني، يعيشون تحت رحمة رصاص الجنجويد وفظائعهم التي لا تتوقف. أصبحت الفاشر مرادفاً للعجز الإنساني، ورمزاً لمدينة تُذبح ببطء على مرأى ومسمع من ضمير عالمي مثقوب.

ضجت وسائل الإعلام العالمية بصور وفيديوهات توثق جرائم مليشيات الدعم السريع عقب دخولها الفاشر، وهي ترتكب القتل والتنكيل بحق مدنيين عزل، أجبرتهم ظروف الحرب على البقاء تحت وابل الرصاص والقذائف. لم يكن أمام سكان الفاشر خيارٌ سوى الاحتماء بالبيوت التي لم تعد تقيهم لا رصاصًا ولا قذائف، بينما كانت موجات العنف تتصاعد في ظل فشل كل المناشدات المحلية والدولية في كبح هذه الانتهاكات.

ورغم صدور بيانات تنديد من منظمات دولية ومواقف غاضبة في برلمانات غربية، إضافة إلى تظاهرات خرجت في مدن أوروبية احتجاجًا على الجرائم الجارية في دارفور، إلا أن شيئًا لم يتغير على الأرض. فحتى اليوم لا يزال ما يزيد عن 12 ألف مدني محاصرين داخل الفاشر، تمنعهم المليشيات من المغادرة تحت أي مبرر، مما حول المدينة إلى سجن كبير تُمارس داخله الانتهاكات يوميًا وبنطاق واسع.

آخر فصول هذه الفظائع تسرب في تقرير نشره موقع “ميدل إيست آي”، الذي كشف عن ممارسات خطيرة تتجاوز حدود القتل العشوائي… فقد أوضح التقرير، مستنداً إلى شهادات صادمة من ضحايا تمكنوا من الفرار إلى منطقة طويلة التي تسيطر عليها حركة جيش تحرير السودان بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور، أن المليشيا كانت تحتجز عدداً من الشباب في منازل قادتها، وتجبرهم على سحب كميات من الدماء منهم بشكل دوري تحت ظروف قاسية ومعاملة مهينة. وشهد أحد الناجين، ويدعى آدم (32 عاماً)، على هذه الممارسة المروعة، التي تحول فيها الإنسان إلى مجرد مصدر بيولوجي يُستنزف لغايات مجهولة، في تعتيم إعلامي متعمد لستر هذه الفظائع التي ترقى إلى جرائم حرب.

إن هذه الانتهاكات ليست معزولة، بل هي جزء من نمط إجرامي أوسع تمارسه مليشيات الجنجويد في عموم دارفور، يهدف إلى استغلال البشر وتحويلهم إلى سلعة. فإلى جانب التطهير العرقي والقتل الجماعي، تتورط هذه المليشيات بشكل ممنهج في الاتجار بالبشر… وقد أشارت التقارير الأممية والحقوقية إلى أن قوات الدعم السريع تتاجر بالأطفال وتجندهم قسراً، حيث وثقت وزارة التنمية الاجتماعية ببورتسودان، تجنيد نحو 9000 طفل… كما أن هناك تقارير تفيد باختطاف فتيات ونساء من الخرطوم ونقلهن إلى دارفور لأغراض الاستغلال الجنسي والاستعباد، مما يؤكد أن المليشيا حولت الحرب إلى مشروع إجرامي يمول عبر استنزاف ثروات البلاد واستغلال أرواح الأبرياء وأجسادهم.

إن الاتجار بالبشر، سواء كان عبر تجنيد الأطفال أو استغلال النساء أو حتى سحب الدماء القسري، يمثل وجهاً آخر لتمويل هذه الحرب القذرة التي ترعاها قوى إقليمية، على رأسها دولة الإمارات، التي توفر الدعم اللوجستي والمالي لهذه المليشيات، مما يجعلها شريكاً مباشراً في هذه الجرائم ضد الإنسانية.

 

الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة؛ إنها جرح مفتوح في جسد السودان، وصوت استغاثة يتردد في صمت العالم… بينما تستمر الجرائم، يواصل الناجون حمل شهاداتهم على أكتافهم كأنها عبء ثقيل لا يرغب أحد في سماعه، لكن للحقيقة قوتها، وللصمود مسالكه، وللأصوات الحرة القدرة على اختراق جدار الصمت ولو طال.

. إننا أمام لحظة تاريخية فارقة، تتطلب منا جميعاً، كإعلاميين وحقوقيين وأفراد، أن نتحمل مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه هذه المدينة المنكوبة. يجب ألا نكتفي بالتنديد أو البكاء على الأطلال، بل يجب أن نواصل الحملة الإعلامية بلا هوادة، وأن نرفع صوت الحقيقة عالياً ليخترق جدران الصمت الدولي، ويكشف زيف الحياد المزعوم. إن كل مقال نكتبه، وكل صورة ننشرها، وكل شهادة نوثقها، هي رصاصة في صدر التعتيم، وخطوة نحو إجبار المجتمع الدولي على التحرك الفعلي.

آن الأوان لكي يتوقف المجتمع الدولي عن سياسة الكيل بمكيالين، وأن يتخذ إجراءات فورية وحاسمة لمحاسبة مليشيات الدعم السريع وقادتها، ومحاسبة داعمها الرئيسي، دولة الإمارات، التي تمول هذه الآلة الجهنمية وتغذيها بالمال والسلاح.

إن إنقاذ المدنيين في الفاشر ومدن دارفور الأخرى من هذه الانتهاكات الجسيمة هو واجب إنساني لا يقبل التأجيل أو المساومة… يجب أن يتحول النداء إلى ضغط دولي لا يلين، والضغط إلى قرار أممي ملزم، والقرار إلى فعل على الأرض، لوقف نزيف الدم، ومحاسبة المجرمين، ليعود الأمان إلى الفاشر، وتعود الحياة إلى دارفور، وتُطوى صفحة هذا الكابوس المروع إلى الأبد، وتستعيد المدينة كرامتها المسلوبة.

Exit mobile version