تقرير – عبد العظيم البشرى
بين الجوع والرصاص، تختنق الفاشر. المدينة التي كانت عاصمة لدارفور وملتقى طرقها، أصبحت اليوم بؤرة للألم ومسرحًا لمأساة إنسانية متفاقمة. في ظل الحصار المضروب على المدينة منذ شهور، لم يعد الصوت الأعلى هو صوت القذائف، بل صوت بطون خاوية، وأرواح تذبل بصمت. قالتها إحدى نساء الفاشر بكل وجع: “أستطيع تحمّل القصف والذخائر الطائشة، لكن لا أستطيع تحمّل الجوع.”عبارة تختصر حجم الكارثة.
الوالي يقر: “الوضع لا يُطاق”:
الحافظ بخيت، والي ولاية شمال دارفور، رسم ملامح المشهد الإنساني بكلمات لا تحتمل التأويل، حين وصف الأوضاع في الفاشر بأنها بلغت مرحلة “لا تُطاق”، وأضاف بأن الحالة الإنسانية تفاقمت إلى ما هو أكثر من المتوقع، مؤكدًا أن فك الحصار عن المدينة أصبح ضرورة قصوى اليوم قبل الغد.
بخيت أقرّ بصراحة نادرة بأن كل ما يُتداول على وسائل الإعلام عن لجوء السكان إلى استهلاك بقايا منتجات الزيوت مثل “الأمباز” هو حقيقة مؤكدة، بل إن هذا المورد المتواضع نفسه بات مهددًا بالنفاد. وأضاف أن ربع جوال الدخن وصل إلى نحو خمسمائة ألف جنيه، ورغم ذلك فهو غير متوفر في الأسواق، مشيرًا إلى أن ما يُقال عن الوضع في الفاشر “ليس مبالغة بل واقع”، ليختم بقوله الحارق: “الجمرة تحرق واطيها.”
نداء أبو نمو: تحركوا قبل فوات الأوان:
الصوت السياسي الأكثر حدةً جاء من محمد بشير عبد الله مناوي أبو نمو، القيادي في حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي. في رسالة نارية وصفها بأنها “صيحة أخيرة قبل المغيب”، وجه أبو نمو انتقادًا لاذعًا لأداء الحكومة والقوات المسلحة، متسائلًا بدهشة عن كيفية تمكن طائرات قوات الدعم السريع من الإقلاع والهبوط نهارًا وليلاً من مطار نيالا، في ظل وجود طيران حربي ومسيرات حكومية، بينما تعجز حكومة كاملة بأجهزتها العسكرية والمشتركة عن إيصال مجرد شحنة غذائية واحدة جوًا إلى الفاشر.
وتساءل بحدة كيف يُعقل أن تعجز الدولة عن تحريك جزء من القوات المتمركزة في محور كردفان، رغم أن المواطنين والعسكريين داخل المدينة “يقفون على حافة الموت من الجوع”.
أبو نمو أشار إلى أن القوة المشتركة أثبتت مرارًا أنها قادرة على هزيمة المليشيات وتشتيتها في ساعات قليلة، مستشهدًا ببسالة الجنود الذين “يركبون التيوتا فوق التيوتا”، في إشارة إلى حماسهم وشجاعتهم في القتال. ومن هذا المنطلق، دعا قادة الجيش، بدءًا من رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه، مرورًا بكل من مناوي، وجبريل إبراهيم، وعبد الله يحيى، ومصطفى طمبور، وصلاح رصاص، إلى إطلاق يد المقاتلين، لا أكثر من تزويدهم بالوقود وبعض المؤن الخفيفة، وتركهم يشقون طريق الصحراء إلى الفاشر على شكل كتائب متفرقة تنطلق من محاور مختلفة.
ورأى أن وصول هذه القوات إلى المدينة كفيل بدحر المليشيات وفتح الطريق وتأمين المطار، بل وإنقاذ مئات الآلاف من المدنيين والعسكريين المحاصرين داخلها.
“لا فرق بين من يبادر ومن ينتظر”
في لهجة لا تخلو من التحدي، قال أبو نمو إنه ليس عسكريًا، لكنه لا يرى فرقًا بين أن تنتظر هجومًا وتتصدى له، أو أن تبادر بالهجوم وتنتصر، مؤكدًا أن “الهزيمة دائمًا من نصيب المليشيا”. وأضاف أن البعض قد يتهمه بأنه “فتح الله عليه الآن فقط بعد أن فقد منصبه الوزاري”، لكنه نفى ذلك، مشيرًا إلى أنه سبق أن وجه نداءات مشابهة للقادة المعنيين في الخفاء، دون أن تُعلن في الإعلام، حفاظًا على التماسك السياسي، ولكن عندما يتعلق الأمر بحياة مئات الآلاف من المدنيين والعسكريين، فلا مكان للمجاملات أو الصمت.
تحذير غرف الطوارئ: “الكارثة بدأت”
على الجانب الإنساني، لم تعد البيانات الصادرة من غرف طوارئ شمال دارفور مجرد تحذيرات، بل تحولت إلى وثائق تشخيص لكارثة قائمة. في بيانين متتاليين صدرا في 25 و26 يوليو، حذّر مجلس تنسيق غرف الطوارئ من انهيار تام في الأمن الغذائي، حيث انعدمت المواد الأساسية بنسبة قاربت 88%، وتكررت حالات الوفاة بين الأطفال وكبار السن بسبب الجوع وسوء التغذية الحاد.
كما أشار المجلس إلى انهيار شبه كامل في خدمات الرعاية الصحية، وتفاقم معاناة النازحين والمجتمعات المضيفة، وطالب بتدخل عاجل من المنظمات الإنسانية الدولية وفتح ممرات آمنة فوريًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
دعوة لدعم المطابخ الجماعية
وفي نداء إنساني عاجل، دعت التنسيقية إلى دعم مطابخ الأحياء داخل المدينة التي أصبحت الملاذ الأخير للمواطنين في مواجهة الجوع، مشددة على أن لا جهة واحدة يمكنها وحدها تحمل عبء الكارثة. وطالبت بتكامل الجهود، وعدم احتكار العمل الإنساني، لأن “الميدان واسع والمعاناة أكبر من أن تتحملها جهة واحدة”.
جبريل إبراهيم: “الحل في البل.. وسنصل إلى الفاشر”:
في موقف رسمي يعكس تنامي القلق من تفاقم الكارثة، أكد وزير المالية ورئيس حركة العدل والمساواة د. جبريل إبراهيم أن كل الجهود تبذل حاليًا من أجل الوصول إلى مدينة الفاشر وفك الحصار عنها. وقال في مقابلة مع صحيفة “دارفور الآن”:”نسعى للوصول إليكم، وكل الجهد مبذول من أجل ذلك.” وأشار إلى أن مليشيا الدعم السريع تتصرف بثقة زائفة، ظنًّا منها أنها محمية من المجتمع الدولي، مضيفًا أن الحركة لن تنتظر تحركًا دوليًا لإنقاذ المدنيين: “لن ننتظر تحرك العالم، وسنواجه المليشيا ميدانياً. الحل في البل.” رسالة جبريل لسكان الفاشر حملت تطمينًا بأن هناك تحركًا فعليًا قادمًا على الأرض، بعد أشهر من الجمود والصمت، مؤكداً أن المدينة ستظل صامدة رغم الظروف القاسية التي تعيشها.
الفاشر تختنق.. فهل من يسمع؟
في ظل هذه الشهادات الميدانية والتقارير الموثقة، يبدو أن الفاشر لم تعد تنتظر الحماية فقط، بل تنتظر الإنصاف، تنتظر فعلًا لا كلامًا. فالجوع لم يعد مجرد طعام مفقود، بل تحول إلى سلاح يُستخدم ضد المدنيين، تمامًا كما تفعل القذائف.
وفي خضم هذا المشهد، تبرز رسالة وزير المالية ورئيس حركة العدل والمساواة، د. جبريل إبراهيم، التي أكد فيها أن “لن ننتظر تحرك العالم، وسنواجه المليشيا ميدانياً.. والحل في البل.” فهل تكون هذه الكلمات مفتاحًا لتحرك فعلي يكسر الحصار ويفتح أبواب المدينة للحياة من جديد؟ أم تظل صرخة الفاشر تتردد وحدها، بين الركام والدخان، بانتظار مغيث لا يأتي؟ إنها الصرخة الأخيرة قبل الغروب.
وإن لم تُلبَّ، فسيُكتب في هذا الزمن أن مدينة بأكملها كانت تنادي.. والجميع كان يسمع، لكن أحدًا لم يُغِث.