في الوقت الذي تتصدر فيه الأوضاع الأمنية والعسكرية المشهد السوداني، لا تقل التحديات الاقتصادية خطورة، إذ تمثل ساحة موازية للصراع من أجل البقاء، ومحورًا حاسمًا في معركة استعادة الدولة السودانية لعافيتها ومكانتها. الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 خلفت آثارًا كارثية على الاقتصاد الوطني، حيث تراجعت الإيرادات العامة، وتوقفت عجلة الإنتاج في عدد من القطاعات، وانهارت سلاسل الإمداد، وارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل غير مسبوق، وسط شُحٍ في الموارد، ومحدودية في الدعم الخارجي.

وفي خضم هذا الواقع المعقد، تبرز الأسئلة الجوهرية: كيف تدير الحكومة المالية العامة للدولة في ظل هذا الظرف الاستثنائي؟ وما هي الخطط المتاحة لتخفيف أعباء المعيشة عن المواطنين الذين أثقلهم الحصار والنزوح وانهيار الخدمات؟ وهل ثمة رؤية لإعادة الإعمار في بلد لم تكتمل بنيته التحتية حتى في زمن السلم؟ وما حقيقة ما يُثار حول الدولار الجمركي، وصرف المرتبات، وإيقاف المتعاونين مع المليشيات المسلحة؟

في هذا الجزء الثاني من الحوار، يُجيب الدكتور جبريل إبراهيم، وزير المالية والتخطيط الاقتصادي ورئيس حركة العدل والمساواة، على هذه التساؤلات، كاشفًا عن توجهات الحكومة في إدارة الملف الاقتصادي، وتقديم رؤية متكاملة لإعادة الإعمار، وتوضيح موقف الدولة من قضايا الساعة المرتبطة بمعاش الناس، ودور شركة “سلعتي”، والموقف من الاستثمارات بنظام البناء والتشغيل (BOT). كما يضع الدكتور جبريل النقاط على الحروف فيما يتعلق بحقيقة ما يُشاع حول وجود “دولار جمركي”، ويستعرض الخطوات المتخذة لتحسين الوضع المالي، وصرف مرتبات العاملين، ودفع عملية الاستقرار الاقتصادي في البلاد.

فإلى مضابط الحوار:

حاوره — علي منصور حسب الله 

ما هي خططك لإدارة المالية في الفترة المقبلة؟

المالية تواجه تحديات كبيرة لأن الموارد شحيحة جدًا. هل البلد فقير؟ البلد من أغنى البلدان من حيث الموارد الطبيعية، لكن لم يتم استغلال هذه الموارد حتى الآن، وبالتالي إيراداتنا لا تغطي احتياجاتنا في البلد أيضًا لا توجد مساعدات حقيقية من أي طرف في العالم هذا لا يكون إلا في حالات نادرة، عندما تكون في وضع قد لا يضمن الطرف الآخر أنك الجهة التي يمكنه التعامل معها بشكل مستمر، دائمًا يترددون في دعم البلاد أو في إقراضها، ولذلك فإن تحدياتنا كبيرة، لكن بفضل الله سبحانه وتعالى نجحنا في الفترة الماضية في أن نتحكم في الصرف ونجتهد في زيادة الإيرادات. سنستمر في هذا الاتجاه في ضبط الصرف وزيادة الإيرادات، والحمد لله الآن العديد من الولايات تم تحريرها، ولايات لم نكن نحصل منها على أي إيرادات، الآن أصبحت تساهم في الإيرادات الضريبية، إن شاء الله الأمور تتحسن، ونجتهد أيضًا في الوصول إلى الجهات الإقليمية والدولية للعمل على أن تكون مساهمة في إعادة الإعمار. لكن التحديات كبيرة، والناس واعون بجزء من هذه التحديات، لكن إن شاء الله كما تمت إدارة المسألة الاقتصادية في الفترة الماضية، نجتهد في أن نحقق قدرًا من الاستقرار في الاقتصاد الكلي في الفترة القادمة.

لا وجود لما يسمى “الدولار الجمركي”.. والسعر موحد وفق البنك المركزي

ما هي إجراءات تخفيف أعباء المعيشة عن كاهل المواطنين؟

هناك إجراءات لتخفيف المعاناة. نحن منذ بداية الحرب جلسنا وأعفينا معظم السلع الاستهلاكية الأساسية للمواطنين من الرسوم الجمركية والضرائب، ولو لم نقم بإعفائها لكانت السلعة تُفرض عليها رسوم تصل مثلًا إلى 40%، خفضناها إلى 3%. نتأكد أن المدخلات الأساسية للغذاء لا تُفرض عليها ضرائب أو رسوم جمركية. نجتهد كذلك في أن تكون السلع متوفرة. بالتأكيد الحكومة حتى الآن ليست هي الجهة التي توزع السلع. لكن الآن أظن أنكم تابعتم رئيس الوزراء؟ قام بتعيين مدير لشركة اسمها “سلعتي”، شركة “سلعتي” مهمتها الأساسية توفير السلع بأقل التكاليف للمواطنين، وهي شركة ممولة من قبل وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي. فبإذن الله سبحانه وتعالى سنوسع نشاط هذه الشركة، ومن خلالها نستطيع توفير جزء كبير من السلع الاستهلاكية بأسعار مناسبة.

بجانب ذلك، الأهم لدينا أن ننتج بصورة أفضل، وندعم الزراعة، فحينما ننتج وتكون هناك وفرة، تنخفض الأسعار. فإذا أنتجنا الذرة بكميات كافية، والدخن بكميات كافية، ومدخلات الطعام كلها، إذا أنتجناها بكميات كافية فستنخفض الأسعار وسيرتاح المواطن إن شاء الله.

التحدي أيضًا كبير فيما يتعلق بسعر الصرف، لأن الحروب عادةً تؤثر على العملة الوطنية بسبب هروب رؤوس الأموال، فالتاجر أو صاحب رأس المال يسعى للاطمئنان على أمواله، فيقوم ببيع ما يملكه وتحويل إيراداته إلى عملات أجنبية ويخرج بها من البلاد. هذا يؤثر على سعر صرف العملة، لأن هناك عرضًا وطلبًا، ويكون الطلب على العملة الأجنبية كبيرًا، لأن الناس يعتبرون العملة الأجنبية والذهب ملاذًا آمنًا في أوقات الحروب أكثر من العملات الوطنية. هذا سبب. وهناك سبب آخر، وهو أن الحرب تعطل الصادرات بشكل كبير، وبالتالي فإن العائد من الصادرات سينخفض، وفي المقابل…

أوقفنا صرف المرتبات لأي موظف يتعامل مع المليشيا

هنالك جدل بشان الدولار الجمركي؟

الشعب السوداني لا أدري إن كان متابعًا أم لا، لكن نحن في يونيو 2021 قمنا بتوحيد سعر الصرف. لم يعد هناك شيء اسمه دولار جمركي، أو دولار حسابي، أو أي نوع آخر من الدولار. أصبح لدينا في وزارة المالية والبنك المركزي سعر واحد فقط للدولار. صحيح أنك في النهاية لا تستطيع القضاء على السوق الموازي بصورة كاملة، لكن على الأقل البنك المركزي يتعامل بأسعار محددة. كل ما يحدث أن الجمارك تواكب القيمة المقدرة بالعملة الأجنبية حسب سعر الصرف السائد في البنك المركزي. وبالتالي، إذا ارتفع سعر الصرف يرتفع معه، وإذا انخفض ينخفض معه.

فالمطلوب فقط مواكبة سعر الصرف الموجود في البنك المركزي. أما أن نقول إنه يوجد ما يسمى بالدولار الجمركي، فهذا غير صحيح، ونحن لم نرفع فئة الجمارك على السلع إطلاقًا. كل ما يحدث أن هناك واردات مُقدّرة بالعملة الأجنبية، وتُحسب بسعر صرف العملة الأجنبية المعتمد في البنك المركزي في نفس اليوم.كل هذا واضح، لكن البعض مرتبك، وهناك من يروجون لمعلومات غير صحيحة في هذا الجانب.

وماذا عن الموظفين المتعاوين مع المليشيا هنالك بعض الولايات قامت بايقافهم؟

طبعًا، إذا كنت تتعامل مع مليشيا، فمن غير المقبول بأي حال من الأحوال أن تصرف لها مرتبًا. نحن في وزارة المالية، أوقفنا تمامًا أي مرتبات كانت تُصرف للمليشيا التي تقاتل الدولة.

هل استطعتم الايفاء بمرتبات العاملين؟

كنا نصرف للموظفين نسبة 60% من مرتباتهم في ميزانية 2023 و2024، والحمد لله في ميزانية 2025 رفعنا النسبة إلى 100%. كل موظف يصله مرتبه في موقعه، ولا توجد لدينا أي مشكلة في هذا الجانب. ولم نواجه حتى الآن – خلال الستة أشهر الماضية – أي مشكلة في الإيفاء بالتزاماتنا تجاه أجور العاملين، ونسعى ألا نواجه أي مشكلة مستقبلًا. لأن الأجور تُعد من الأولويات القصوى، ونحن نعلم أنها حتى الآن لا تفي باحتياجات العاملين بشكل كامل.

بدأنا العام بزيادة مرتبات العاملين إلى 100% ولا توجد مشاكل في الصرف حتى الآن

بعد الحرب، أصبحت الترتيبات لا تُناقش إلا في إطار تمويل الحرب وما يرتبط بها. لكن هناك أمل، لأن السودان، بكل ما فيه من نقص في البنية التحتية وبعض مشروعات الإعمار، يحتاج إلى رؤية واضحة.

في الحقيقة، لا توجد بنية تحتية حقيقية في السودان لنقول إن لدينا أساسًا يمكن البناء عليه. نحن بلد تبلغ مساحته مليونًا وتسعمائة ألف كيلومتر مربع، ومع ذلك لا نملك طريقًا مزدوجًا بطول 100 كيلومتر، وهذا أمر محزن للغاية.

وسائل النقل شبه معطلة، فمثلًا الرحلات إلى عطبرة بالكاد تعمل، والوصول إلى الخرطوم صعب. شبكة الكهرباء لا تغطي البلاد كما ينبغي، وأقصى طاقة إنتاجية لدينا حوالي 3.2 جيجاواط، بينما إنارة الحرم المكي وحدها تستهلك 4 جيجاواط. نحن بلد كامل إنتاجه من الكهرباء لا يبلغ ما يُستهلك في الحرم.

نعمل على خفض الأسعار عبر دعم الزراعة وتوفير السلع الأساسية

لا يمكن أن نتحدث عن تنمية حقيقية في بلد أكثر من 60% من مواطنيه لا علاقة لهم بالكهرباء على الإطلاق. لا يمكن تطوير البلاد بهذه الطريقة، ولذلك نحن بحاجة إلى مشروع ضخم يشمل: الطرق، السكك الحديدية، الموانئ، المطارات، شبكات المياه، الكهرباء، الغاز، مدخلات الإنتاج، وكل الخدمات الأساسية.

الدولة تنبّهت لهذا الأمر، وقد أصدر مجلس السيادة قرارًا في ديسمبر 2023 بتكوين لجنة برئاسة وزير المالية لتقديم رؤية لإعادة الإعمار بعد الحرب. هذا القرار جاء مبكرًا، بعد حوالي سبعة أشهر فقط من اندلاع الحرب.

وقد قدّمت اللجنة رؤية متكاملة، وتقريرها محفوظ في ثلاث مجلدات لدى مجلس السيادة. وأعتقد أن من بين التوصيات المهمة التي قدمناها، كانت الدعوة لتكوين مفوضية لإعادة الإعمار، تكون لها سلطات واسعة وإمكانات كبيرة، لتبشّر ببداية حقيقية لمشاريع البنية التحتية.

لكن الموارد اللازمة لتنفيذ هذه المشاريع غير متاحة حاليًا، لذلك نتجه نحو البحث عن شركاء لديهم الاستعداد للتعامل معنا بنظام البناء والتشغيل، أو ما يُعرف بـ(BOT)، حيث تقوم الجهة المنفذة ببناء الطريق أو المشروع، وتستعيد تكلفته من تشغيله لاحقًا.

Exit mobile version
Share via