ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في خطوة تُظهر ازدواجية المعايير وتناقض الشعارات مع الأفعال أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات مباشرة على فيلق البراء بن مالك أحد التشكيلات المسلحة البارزة في السودان وعلى الدكتور جبريل إبراهيم وزير المالية والتخطيط الاقتصادي ورئيس حركة العدل والمساواة ورغم أن واشنطن تُبرر هذه الإجراءات بأنها تهدف إلى وقف مصادر تمويل الصراع فإن القراءة الواقعية تُظهر أن العقوبات ليست سوى وسيلة ضغط سياسي تستثني من طاولتها أطرافًا تقوم بالفعل بارتكاب الانتهاكات
من اللافت أن الولايات المتحدة تتجه لمعاقبة شخصيات سودانية تُقاتل ضمن واقع سياسي وعسكري معقد بينما تغضّ الطرف عن دول مثل الإمارات العربية المتحدة التي تتوالى التقارير المستقلة والموثوقة بشأن دعمها الصريح لمليشيا الدعم السريع في السودان
هذه المليشيا بحسب منظمات حقوقية دولية متهمة بارتكاب فظائع وجرائم ضد الإنسانية اغتصاب جماعي وتجويع متعمد للمدنيين واستخدام الطعام والدواء كسلاح والتهجير القسري إن مقال (Foreign Policy) وتصريحات من (Sudan War Monitor) وغيرهما من المصادر المحايدة أكدوا وجود دعم إماراتي عبر ممرات لوجستية وأسلحة تصل إلى السودان وأحيانًا عبر دول ثالثة مثل تشاد من خلال معبر (أدري الحدودي) ومع ذلك لم تفرض واشنطن عقوبات فاعلة وجدية على من يدعم هذا المسار الدموي
فهل الدم السوداني رخيص إلى هذه الدرجة؟ أم أن من يقف وراء الجرائم ليس هو المهم بل مدى قربه أو بعده عن دوائر النفوذ الأمريكية ؟ من السهل أن تُعاقَب الضحية حين يكون صوته مزعجًا وموقفه صلبًا الدكتور جبريل إبراهيم لم يتوانَ في تصريحاته العلنية عن فضح الحقائق بما في ذلك ما قاله للمبعوث الأمريكي السابق (توم بيرلو) في العاصمة واشنطن حين كشف بالأدلة عن دعم إماراتي مباشر للجنجويد بالسلاح والعتاد عبر معبر أدري
ويبدو أن هذا الحديث أوجعهم لأنه صادم وموثّق ولا يمكن نفيه إلا بالتجاهل أو الصمت المتواطئ لكن ما لا تدركه بعض العقول في دوائر القرار هو أن مثل هذه العقوبات بدلًا من أن تُربك الموقف تزيده رسوخًا الدكتور جبريل لم يكن يومًا ممن تُبدَّل مواقفهم تحت الضغط
فالرجل الذي حمل السلاح من أجل العدالة دفاعًا عن الحقوق لا يمكن أن تنال منه قائمة سوداء أو قرارات سياسية مشبوهة
فالعقوبات قد تُجمِّد أصولًا في مصارف إذا كان فعلاً لديه أصول هو أو المناضل المصباح أبو زيد لكنها لن تجمِّد ضميرًا حيًّا أو تكسر إرادة تقاتل من أجل أن يبقى السودان للسودانيين لا رهينة بيد مليشيات مدعومة من الخارج وتعتمد في تخريب الوطن على مرتزقة من كولومبيا وليبيا والصومال ودولة جنوب السودان وتشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وكينيا
ما يُحزن ويُغضب في آن هو هذا الانحياز الواضح في العقوبات شخصيات سودانية تُعاقَب لمجرد الوقوف في وجه آلة حرب خارجية بينما تُترَك دول تُغذِّي النزاع بلا محاسبة تحت شعار (المصالح الاستراتيجية) تُدفَن الحقيقة وتُشوَّه العدالة ويُمنَح الغطاء لتمويل الصراع فمن يتابع المشهد يرى أن السلاح الأمريكي الذي يُفترض أنه مراقَب الاستخدام يصل بشكل غير مباشر إلى يد مليشيات ترتكب الفظائع ولا أحد يُحاسب المورد أو المموِّل أما حين يتعلق الأمر بشخصية سودانية تتبنى خطابًا وطنيًا مستقلاً وتقف في صف سيادة البلاد فالعقوبة جاهزة والقائمة السوداء تُفتَح من الواضح أن هذه العقوبات جاءت كردّ فعل مباشر على الانتصارات العسكرية التي حققتها القوات المسلحة السودانية والقوات المشتركة وفيلق البراء بن مالك ودرع السودان والقوات المساندة الأخرى في ميادين القتال وتحديدًا في شمال كردفان وتحرير بارا والتقدم السريع نحو دارفور هذه الانتصارات تعني شيئًا واحدًا نهاية وشيكة لمليشيا الدعم السريع المدعومة إماراتيًا والحليفة غير المعلنة للولايات المتحدة ومن هنا جاءت فكرة (الهدنة الإنسانية) التي طرحتها الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، يوم الجمعة 12 سبتمبر/أيلول 2025، كغطاء سياسي لإنقاذ المليشيا الهدنة المقترحة تمتد لثلاثة أشهر في السودان يتبعها وقف دائم لإطلاق النار ثم عملية انتقالية تؤدي إلى حكم مدني مدتها تسعة أشهر وشدّدت الدول الأربع في بيانها المشترك على ضرورة أن تكون العملية (شاملة وشفافة) وأن تنتهي ضمن المهل المحددة بغية (تلبية تطلعات الشعب السوداني نحو إقامة حكومة مستقلة بقيادة مدنية تتمتع بقدر كبير من المشروعية والقدرة على المساءلة) لكن هذه المبادرات مهما زُيّنت بالمصطلحات الهادئة تبقى في حقيقتها محاولة لإعادة إنتاج وضع اختلّ توازنه بفعل المقاومة الميدانية وبسالة الرجال في الميدان وفقدان المليشيا لأهم معاقلها وداعميها ما يجب أن يُفهَم من هذا المشهد المعقّد هو أن العقوبات إذا لم تكنه شاملة ومتوازنة فإنها تتحوّل من أداة لتحقيق العدالة إلى سلاح سياسي موجَّه ضد من لا يسير في فلك المصالح الغربية لذلك المطلوب اليوم
1. محاسبة كل مَن يدعم النزاعات بالسلاح أو المال سواء كان فردًا أو دولة
2. إعمال الشفافية في ملف تصدير السلاح ومراقبة الوجهات النهائية
3. الوقف الفوري للنفاق الدولي الذي يُدين طرفًا ويغضّ الطرف عن الآخر بسبب التحالفات أو المصالح
4. إعادة الاعتبار لمبدأ سيادة الدول وحق شعوبها في تقرير مصيرها دون تدخلات خارجية مدمِّرة
ورسالة هذا المقال ليست تبرئة أو انحيازًا أعمى بل دفاع عن حق الشعوب في قول الحقيقة من حق السودان أن يُقاوم الاحتلال غير المعلن من المليشيات المدعومة من الخارج ومن حق رجاله أن يرفعوا الصوت في وجه كل من يُسهِم في تدمير وطنهم أما أن يُعاقَبوا لأنهم قالوا الحقيقة فهذا يُدين من عاقب لا من عُوقب
الدكتور جبريل إبراهيم ورفيقه المصباح أبو زيد لم يكونا يومًا من صُنّاع الفوضى بل من دعاة الإصلاح والمصالحة الوطنية ومن وقف ضد الاحتلال الإسرائيلي ورفض التطبيع وسعى لدعم قضايا التحرر ليس لأنهم (إسلاميان) أو (معارضان) بل لأنهما مؤمنان بعدالة تلك القضايا فالعقوبات لا تصنع العدل ولا تُسقِط الرجال وما يُكتَب اليوم من قرارات سياسية سيُكتَب غدًا في صفحات التاريخ والشعب السوداني لن ينسى من وقف معه ولن يغفر لمن تواطأ ضده ولو بصمته ولن تلين عزيمة الأحرار حتى يُحرَّر الوطن من دنس الجنجويد وعملاء أبوظبي ويعود السودان للسودانيين وحدهم فالمواقف لا تُباع والمبادئ لا تُشترى وإن أوجعت الحقيقة فهي الطريق الوحيد للعدالة
وهذه ليست المرة الأولى التي يُدفع فيها الشرفاء ثمن التزامهم بالحق ولن تكون الأخيرة وإن العقوبات التي تسعى إلى إسكات الأصوات الحرة أو تشويه سمعة الوطنيين الذين رفضوا بيع القرار الوطني في أسواق المصالح الدولية لن تنجح ما دام في هذا الوطن رجال آمنوا أن الحرية لا تُوهب والسيادة لا تُستجدى والكرامة لا تُنتزع إلا بالصبر وتضحية الدكتور جبريل إبراهيم والمصباح أبو زيد ليس مجرد تضحية مسؤول سياسي وقائد كتيبة مقاتلة بل تضحية رمزان لمشروع نضالي أكبر عنوانه استقلال القرار السوداني ورفض التبعية والإيمان بأن السودان يجب أن يُحكَم بإرادة شعبه لا بإملاءات الخارج وفي وقت تتواطأ فيه قوى إقليمية ودولية لتكريس الأمر الواقع وإعادة تدوير المليشيات كجزء من أي حل قادم فإن من واجب الوطنيين أن يكشفوا هذا العبث ويرفضوا الصيغ الملفّقة ويُعيدوا تعريف السلام لا كاستسلام بل كعدالة تُنصِف الضحية وتُحاسب الجاني، أيًّا كان فما جدوى أي سلام لا يُنهي سطوة الجنجويد؟
وما قيمة انتقال مدني إذا تمّ تحت مظلة الممولين للخراب؟
وأيّ حوار يُراد له أن يبدأ فيما لا تزال البنادق تُشحن والمرتزقة يُستقدَمون؟! إننا أمام لحظة فاصلة في التاريخ السوداني إما أن نرضى بأن نُدار من الخارج أو نختار أن نُحدِّد مصيرنا بأنفسنا ولو كلّف ذلك أثمانًا باهظة فالمعركة لم تكن يومًا معركة مواقع فحسب بل معركة وعي وهوية وكرامة ومن يُدرِك ذلك يعلم أن العقوبات ليست نهاية الطريق بل اختبارًا جديدًا لثبات الموقف ونقاء الهدف وهذا الجيل الذي عايش الخذلان والتضليل بات أكثر وعيًا من أن يُخدَع بشعارات (التحوّل المدني) إذا كانت تُدار من غرف خلفية لا تؤمن بالديمقراطية أصلًا وأكثر شجاعة من أن يقبل المساومة على دماء الشهداء أو أن يُلدغ مرتين من ذات العواصم التي دعمت الاستبداد وسلّحت القَتَلة وباركت الانقلابات في عدة دول متى وافقت مصالحها فإلى الذين ظنّوا أن العقوبات ستُخرس الأحرار أخطأتم التقدير
وإلى الذين يراهنون على إنهاك المقاومين عبر الضغوط الاقتصادية والسياسية والإعلامية
أنتم لا تعرفون معدن هذا الشعب ولا جوهر هذا المشروع وإلى الشعب السوداني هذا وقت الوعي واليقظة لا وقت الانقسام والتشكيك
لا تُصدّقوا أن العقوبات تُفرض بحثًا عن العدالة بل تُستخدم أحيانًا لحماية الجلاد وتطويع الضحية تذكّروا دائمًا أن من صمد في الميدان لن تهزمه قوائم سوداء ولا قرارات جوفاء الحرية لا تُمنَح بل تُنتَزع والسيادة لا تُستورد بل تُصنَع
والكرامة لا تُصادَر بالعقوبات بل تُؤكَّد بالصمود وسيبقى السودان للسودانيين
وسيذهب الغزاة وعملاؤهم
وستبقى المواقف… شاهدةً على من خان ومن صان