ضل الحراز:  علي منصور حسب الله

 

في لحظة موجعة ترجّل فارسٌ من فرسان الحكمة وغاب وجهٌ من وجوه السلم الاجتماعي في السودان وانطفأت شمعة من شموع الرشد التي ظلت تضيء دروب العمل الأهلي والسياسي لعقود.

رحل الحبيب الأستاذ دبكه عيسى دبكه عميد آل دبكه وأحد أبرز رجالات حزب الأمة القومي وقامة سامقة في الإدارة الأهلية وركيزة لا تنكسر من ركائز التماسك المجتمعي في جنوب دارفور كان الفقيد مرجعًا يُحتكم إليه عند التباين وصوتًا عاقلاً حين يعلو الضجيج ووجهًا نقيًا من وجوه العطاء بلا مقابل والوفاء بلا انتظار

رحل في صمت لكنه ترك أثرًا صاخبًا في القلوب والذاكرة الجمعية إذ كان ممن يصنعون التاريخ دون أن يطلبوا التصفيق ويعملون بصمت مؤمنًا بأن خدمة الناس هي أرفع المراتب لم يكن دبكه مجرد زعيم قبلي ولا وجهًا من وجوه السياسة التقليدية بل كان مدرسة في الكرامة والتجرد والحكمة الاجتماعية ففي واحدة من أعظم مآثره تنازل طوعًا عن تولّي نظارة قبيلة البني هلبة وهو الموقع الذي كانت له فيه الأحقية عرفًا وتاريخًا واستحقاقًا لكنه آثر وحدة الصف على امتياز المنصب فقدم درسًا خالصًا في الإيثار والزهد في السلطة ترك المنصب لابن أخيه رغم أن الأعراف لا تمنحه الأسبقية ليُثبت أن قيمة القبيلة لا تُقاس بمن يحمل اللقب بل بمن يختار الحفاظ على اللحمة الاجتماعية فوق كل اعتبار وجاء هذا الموقف النبيل في لحظة حرجة كادت تمزّق النسيج القبلي لولا حكمته ورغم أن حكومة ولاية جنوب دارفور آنذاك ممثلة في واليها علي محمود محمد عبد الرسول كانت داعمة لهذا الترتيب إلا أن القرار الحقيقي لم يكن قرار سلطة بل قرار رجلٍ آثر المصلحة العامة على المجد الشخصي كما يفعل الكبار برحيله المفاجئ رحلت قيم ومعاني الأعراف والتقاليد وغابت مرجعية من مرجعيات العقلانية والحكمة في إدارة شأن الأهل والعشيرة فقد كان ملازمًا للبيت الكبير مجالسًا لضيوفه مستمعًا لما يقولون ثم مشاركًا وبفعالية في الوصول إلى المعالجات بالتوافق الذي ينطوي على المحبة والاحترام كان أحد مراجع (الدار) حافظًا لتاريخها وآثارها وركنًا في حواراتها برحيله نفتقده بهدوئه بصبره بتحمله للشدائد والمشاق

كان محبًا للسلام مناصرًا للحق كاظمًا للغيظ مبادرًا إلى الإصلاح ساعيًا في الخير كلما اشتعلت نار فتنة قبلية كان أول من يبادر لإطفائها لم يكن كثير الكلام لكن حين ينطق يُنصت الكلّ هيبته تسبق صوته وصدقه يُغني عن قسمه لقد كان جسرًا لعبور القبائل المتنازعة نحو الاتفاق ملاذًا عند الاختلاف صوتًا عاقلاً حين تصمّ الغضب الآذان شهد له الأصدقاء والخصوم معًا بأنه لم يكن طرفًا في فتنة ولا سببًا في نزاع بل دائمًا كان صاحب موقف يسعى إلى إصلاح ذات البين ويقدّم الضمير الجمعي على الغلبة الفردية في زمنٍ زادت فيه حدة الاستقطابات القبلية والسياسية ظلّ الفقيد رمزًا للتوازن والاعتدال لم يُعرف منه تعصب لفئة أو تهجم على أحد بل كان دائمًا على مسافة واحدة من الجميع وكثيرًا ما نصح ابن أخيه الناظر المعزول التوم الهادي عيسى لاثنائه عن موقفه غير الوطني داعيًا إياه ألا يهدم تاريخ القبيلة آمن أن قوة القبيلة ليست في زعيمها بل في عدلها وحكمة رجالها وتسامح قلوبها وكان يرى أن التعايش السلمي هو الضمان الحقيقي لبقاء النسيج الاجتماعي وأن الحوار وسيلة لتفكيك الأزمات وأن الحكمة درع يمنع السقوط في مهاوي الفتن ولأنه عاش من أجل عد الفرسان، كعاشق ولهان لترابها وأهلها أوصى بأن يُدفن في ثراها لذلك، بعد وفاته في نيالا تم نقل جثمانه الطاهر إلى عد الفرسان حيث وُورِي الثرى هناك كما أراد

ليست الكلمات كافية في وصف الفقد ولا المشاعر تستطيع أن تحيط بحجمه إن جنوب دارفور بكل مكوناتها فقدت برحيلك يا أبا الحكم أحد أعمدتها الصلبة وسندًا من سَنَدات السلم الأهلي ومرجعًا قلّ أن يتكرر فقدت القبائل رجلاً ظل يعمل بصمت على إطفاء الحرائق لا إشعالها، وعلى تفكيك الاحتقان لا صناعته رجلًا لم تكن السياسة لديه غاية بل وسيلة لخدمة الناس لم يستغل نفوذه ولم يسعَ وراء مكاسب بل كان شغله الشاغل هو صون كرامة القبيلة وتعزيز استقرارها وتمتين علاقتها بباقي المكونات المجتمعية

جنوب دارفور تبكيك اليوم بدمعٍ صادق لأنك لم تكن رجل قبيلة فقط بل رجل منطقة بأكملها وقلبًا مفتوحًا لأبنائها دون تمييز

يموت الجسد وتبقى الروح حيّة في القلوب، وسيرة الفقيد دبكه عيسى دبكه ستظل تُروى جيلاً بعد جيل لا كحكاية عابرة بل كنموذج للقائد الحقيقي الذي يترفع عن الصغائر ويُقدّم المصلحة العامة على الذاتية لم يترك وراءه عقارات ولا أرصدة لكنه ترك ما هو أغلى: السمعة الطيبة الاحترام وسيرة ناصعة ومواقف ستخلّدها ذاكرة الناس والتاريخ

وداعًا أيها الفارس النبيل

عزاؤنا أنك رحلت مرفوع الرأس خفيف الظهر نظيف اليد نقي السريرة

تركت لنا إرثًا من الحكمة لن ننساه ودروسًا في التجرد سيصعب تكرارها وقيمًا سنسعى لأن تكون دليلنا في هذه الأوقات الصعبة.

سلامٌ على روحك الطاهرة…

سلامٌ على مواقفك النبيلة…

سلامٌ على أيامك التي كانت كلها عطاء.

لك المجد يا أبا الحكم،

ولأهلك ومحبيكوورفاق دربك، الصبر والسلوان

وإنا لله وإنا إليه راجعون

 

التعازي موصولة إلى

إلى عموم آل دبكه

وآل مفضل وآل سندكه البلول وآل الناقي وآل زكين ووآل البليل وآل الحبو ونخص ابنه المكلوم الضابط الإداري والوطني الغيور فتح الرحمن في كمبالا وإلى عموم قبيلة بني هلبه في السودان وخارجه

Exit mobile version