ضل الحراز :  علي منصور حسب الله

 

في محفل تدشين عمل لجنة فك الحصار عن مدينة الفاشر استوقفتني عبارة ذات دلالة عميقة قالها الزعيم الأهلي والسياسي المحنك محمد الأمين ترك وهو يوجّه (التهنئة) للدكتور جبريل إبراهيم وزير المالية والتخطيط الاقتصادي وزعيم حركة العدل والمساواة بمناسبة فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات عليه فالزعيم ترك لم يبارك العقوبة من باب الاستسلام أو السخرية بل قال عبارته ببصيرة وطنية ثاقبة مؤكدًا أن أي سياسي أو قائد يصدر في حقه عقوبات من واشنطن فهذا دليل على وطنيته ورفضه للانبطاح أمام الهيمنة الأمريكية هذا المفهوم يتوافق تماماً مع ما ذهب إليه حاكم إقليم دارفور الفل مارشال مني أركو مناوي الذي قال إن الغرب لا يفرض إلا أولئك الذين تم (ترويضهم) حتى صاروا (أكثر كاثوليكية من البابا) في إشارة إلى أولئك الذين تجاوزوا الحدود في خدمة الأجندات الغربية على حساب شعوبهم

ووالربط بين هذه العقوبات وتطورات المعارك الميدانية على الأرض ليس عبثًا فكما أشار الدكتور بحر إدريس أبو قردة نائب رئيس لجنة فك الحصار عن الفاشر فإن عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية على جبريل إبراهيم وفيلق البراء جاءت عقب تحرير مدينة بارا وهي خطوة اعتبرها الغرب تهديدًا لمعادلة السيطرة التي تريد القوى الكبرى تثبيتها في السودان فمدينة بارا ليست مجرد موقع جغرافي بل هي عقدة استراتيجية تحريرها يعني قطع أحد أهم شرايين الإمداد لمليشيا الدعم السريع وشل قدرتها على المناورة وبالتالي تأمين مدينة الأبيض وفتح الطريق الحيوي الذي يربط غرب السودان بشرقه وشماله ووسطه ولذلك فإن الغرب الذي لم يتحرك حين كانت المليشيا تقتل المدنيين وتنهب المدن سارع فجأة للحديث عن (هدنة إنسانية) وتحركات أممية مريبة فور اختلال ميزان القوى لصالح الجيش إن تحركات المجتمع الدولي ممثلًا في الأمم المتحدة ومبعوثيها وفي السياسات الأمريكية والأوروبية تؤكد وجود انحياز فجّ وفاضح لمليشيا الدعم السريع لا يمكن تفسير سعيهم لفرض هدنة في كل مرة تتقدم فيها القوات المسلحة إلا بأنه محاولة لإنقاذ المليشيا من الهزيمة المحتومة والمفارقة أن هذه الجهات نفسها لم تُبدِ أي استنكار حقيقي ولا حتى بيانات (قلق) أمام المجازر التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع من قتل المدنيين واغتصاب النساء ونهب الإغاثات وقطع الطرقات وتعذيب الأبرياء لقد وثّق منسوبي مليشيا الدعم السريع جرائمهم البشعة بأنفسهم مثل الفتاة قسمة علي عمر التي عُلّقت على جذع شجرة حتى الموت والمواطن أحمد قندول الذي قتل بدم بارد وسائقو شاحنات الإغاثة الذين يُقتلون على الطرقات بينما المنظمات الدولية تصمت الأنكى أن هذه المنظمات، تحت ستار (المساعدات الإنسانية) تصر على استخدام معبر (أدري) الحدودي مع تشاد وهو المعبر الذي تمر عبره معظم الإمدادات التي تنتهي في يد المليشيا وليس المدنيين لماذا لا تُستخدم معابر أخرى مثل الطينة التي يمكن للسلطات السودانية فيها أن تقوم بفحص ومراقبة حقيقية لما يدخل البلاد؟ لماذا الإصرار على منفذ واحد معلوم الارتباطات والتواطؤ؟ أليس من حقنا أن نسأل هل المجتمع الدولي شريك صامت في تجويع أهل الفاشر؟ هل الدعم الإنساني يُستخدم كحصان طروادة لتثبيت مليشيا عُرفت بالإبادة والنهب؟ إذا تأملنا في قائمة العقوبات الأمريكية سنجد أنها تتجنب أي مساس حقيقي بقيادات الدعم السريع المتورطة في جرائم حرب موثقة وتوجهها بدلًا من ذلك لقادة في الحكومة أو الجيش أو الحركات التي تقاتل المليشيا من يُعاقَب هنا؟ هل الضحية أم الجلاد؟ الرسالة التي تبعث بها واشنطن والأمم المتحدة عبر سلوكها واضحة (قاتل ما شئت وانهب ما شئت وارتكب المجازر ما دمت تنفذ أجندتنا في المنطقة أما إن تمردت على الترويض، فعقوباتنا جاهزة) أمام هذا الواقع الخطير يجب على الحكومة السودانية اتخاذ موقف واضح من المجتمع الدولي والمنظمات التي أثبتت تواطؤها.

أولًا إغلاق معبر (أدري) فورًا وفتح معبر (الطينة) فقط على أن تتم فيه كل عمليات التفتيش والمراقبة من قبل أجهزة الدول.

ثانيًا إلزام كل المنظمات العاملة بإظهار وجهتها ومخازنها وخطوط إمدادها وتجميد عمل كل منظمة ثبت دعمها للمليشيا

ثالثًا فضح مواقف هذه الدول والمنظمات في المحافل الدولية وعدم السماح باستمرار الحديث عن (الحياد) في ظل هذا الانحياز الصارخ.

ختاماً لا لشرعنة الإبادة عبر صكوك غربية فالسودانيون لم يعودوا سذجًا وهم يرون بوضوح أن ما يجري من تغطية دولية للمليشيا وفرض عقوبات على من يقاتلها ليس إلا محاولات بائسة لإعادة إنتاج مشروع السيطرة على السودان من خلال وكلاء محليين مسلحين لكن ما يغيب عن هؤلاء أن السودان اليوم ليس كما كان بالأمس فقد تفتحت أعين الناس ولن تنطلي عليهم بعد اليوم لعبة (الدعم الإنساني) الذي يمر من فوهات البنادق، ولا (الهدنة) التي يُراد بها إعادة إنعاش القتَلة

Exit mobile version