جرة قلم:  شيماء أحمد جوه

 

في عصر يُفترض أن تكون فيه الإنسانية معيارًا لكل فعل وحقوق الإنسان ليست شعارات تُرفع في المؤتمرات فحسب بل ضميرًا حيًّا يُحتكم إليه تُفجعنا مأساة جديدة وجريمة بشعة لا يمكن للعقل ولا للضمير تقبّلها قِسمة علي عمر… فتاة علِّقت على جذع شجرة وعُذبت حتى لفظت أنفاسها الأخيرة فأي بشرٍ هؤلاء الذين تجردوا من كل معاني الرحمة؟ من أي جحيمٍ خرجوا؟ وأي قلب ذاك الذي يحتمل أن يرى جسدًا نحيلاً يتلوى من الألم دون أن يرف له جفن؟ قسمة لم تكن سوى زهرة صغيرة… فتاة تحمل حلماً بسيطًا في الحياة أن تعيش بكرامة لكنها وجدت نفسها ضحية منظومةٍ لا تعرف من العدل إلا اسمه ولا من الإنسانية إلا قناعها الزائف يقول نزار قباني في رثائه لبلقيس الراوي زوجته التي قضت في تفجير إرهابي

(شكراً لكم.. شكراً لكم

فحبيبتي قُتلت.. وصار بوسعكم

أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة) واليوم نعيد الصرخة نفسها فها هي بلقيس أخرى تُقتل لكن هذه المرة ليس تحت الأنقاض بل على جذع شجرة ! قسمة هي وجهٌ جديد لبلقيس وصدى لصوت القصيدة المغتالة في أرضٍ أنهكها الجهل وقضت عليها القسوة واستشرى فيها الإفلات من العقاب فمنذ متى أصبح الجَسد الأنثوي مستباحاً؟ ومتى صار التعذيب وسيلة لتأديب النساء وإسكات أصواتهن وتحطيم أحلامهن؟

من يوقف هذا الانحدار الأخلاقي؟ من يضع حدًّا لهذا السقوط المروّع في قاع الوحشية؟ أين القانون؟ أين الضمير؟

في جريمة قسمة لا يكفي أن نسأل (من قتلها؟) بل يجب أن نسأل أيضًا من سمح لهم بقتلها؟ أين الأجهزة التي من المفترض أن تحمي المواطن لا أن تغطي على قاتليه؟ أين القانون الذي يجب أن يكون حارسًا للعدالة لا سيفًا على رقاب الضعفاء؟ قسمة لم تمت وحدها لقد ماتت فينا ثقةٌ في دولة المليشيات وانطفأ فينا ضوء وتكسّرت مرآة كنا نرى فيها وجهاً لوطنٍ نحلم به فإن كانت الجريمة قد وقعت بجسدٍ واحد فإن صداها يعصف بأمة كاملة أمة لا تزال تتعثر في طريق العدالة وتتخبط في دوائر الانتهاك دون محاسبة

نزار قباني حين كتب عن بلقيس لم يكن يرثي فقط امرأة بل كان ينعى أمةً تغتال الجمال وتقهر الضعف وتنتشي بسفك الدم حيث يقول (وهل من أمـةٍ في الأرض ..إلا نحن تغتال القصيدة؟”

ونقول معه اليوم (أية أمةٍ تلك التي تغتال أصوات البلابل؟)

قسمة كانت بلبلًا آخر يُغني للحياة فأردوه بصمتهم وأزهقوا صوتها بأدواتهم البشعة قسمة… اسمها وحده يكفي ليحملنا إلى تأملٍ عميق. أي (قسمة) هذه التي جعلت نصيبها العذاب؟ أي قدر كُتب عليها؟

قسمة علي عمر… وكأن اسمها ينطق بالحكاية من بدايتها إلى نهايتها قسمةٌ على عمرٍ قصير ممتد بين ألم الطفولة وظلم الواقع لم نعد نملك ترف الصمت كل لحظة صمتٍ هي مشاركة ضمنية في الجريمة. كل تقاعس عن المطالبة بالعدالة هو خيانة جديدة لقسمة ولكل من سبقها من المهم أن نربط هذه الجريمة البشعة بسياق أوسع من مجرد (حادثة فردية) هذه ثقافة متجذرة في العنف في احتقار المرأة في التطبيع مع الانتهاك في مؤسسات لا تُحاسب المجرم بل تُبرر له وجرة القلم اليوم ليست ترفًا أدبيًّا بل فعل مقاومة.

هي احتجاج وثورة ناعمة وصرخة مكتومة خرجت أخيرًا إلى النور

قسمة لن تمرّي بصمت

قسمة سنقول اسمك في الميادين قسمة سنعلّق صورتك على أبواب العدالة حتى تُفتح فقبائلٌ أكلت قبائل ..

وثعالبٌ قتـلت ثعالب ..

وعناكبٌ قتلت عناكب ..

قسماً بعينيك اللتين إليهما

تأوي ملايين الكواكب

سأقول يا قمري عن هؤلاء العجائب) لن نكتفي بقول العجائب بل سنفضحها سنوثّقها سنلاحق مرتكبيها ولو بالكلمة لأن الكتابة حين تصير مقاومة تُصبح أقوى من الرصاص

Exit mobile version