ضل الحراز:  علي منصور حسب الله

 

 

في السادس من أكتوبر 2025، انطفأ ضوءٌ آخر من أضواء الخدمة العامة في السودان برحيل محمد طاهر إيلا آخر رئيس وزراء في حقبة الإنقاذ وأحد القادة التنفيذيين الذين جمعوا بين الكفاءة الإدارية والخيال العملي والانضباط الشخصي في زمن كانت فيه البلاد بأمسّ الحاجة إلى رجالٍ يملكون القدرة على الإنجاز بصمت والتفكير خارج الصندوق والإبداع في خلق المشروعات والمضي قُدُماً وسط ركام السياسة وانهيارات المؤسسات وعجز الأنظمة كان إيلا من أولئك الذين يمرّون في دروب السلطة بأثرٍ باقٍ لا يزول لا ضجيج لهم ولا بهرجة لكن حضورهم يملأ المكان بإصرارهم بأفعالهم وبتفاصيلهم الصغيرة التي تصنع الفارق كان من طينة الرجال الذين إذا غابوا شعرت الأرض بأن شيئًا أصيلاً قد انتُزع منها وأن الوطن فقد أحد أعمدته الهادئة الصلبة وُلد محمد طاهر إيلا عام 1951 في مدينة جبيت الساحلية بولاية البحر الأحمر في بيئة ميسورة الحال وسط مجتمع الهدندوة العريق حيث انحدر والده من قبيلة الميراب ووالدته من القرعيب نشأ في كنف عائلة زرعت فيه قيم العمل والانضباط قيم الفضيلة والإيثار وكان القدر قد خط له طريقًا مختلفًا فيه من السياسة ما فيه ومن الدولة أكثر منذ نعومة أظافره بدأ نشاطه السياسي في المرحلة الثانوية حيث ظهرت بوادر القائد فيه مبكرًا والتحق بجامعة الخرطوم الجميلة والمستحيلة ودرس الاقتصاد ثم نال درجة الماجستير من جامعة كارديف البريطانية واضعًا لنفسه مسارًا مهنيًا يؤهله ليكون رجل إدارة بامتياز لا مجرّد موظف رفيع لم يكن محمد طاهر إيلا سياسيًا تقليديًا بل كان مهندسًا للواقع عقلًا إداريًا يُحسن التعامل مع الموارد المحدودة ويوظفها لتحقيق أقصى نتائج ممكنة كان مثل المهاجم القناص الذي يصنع من أنصاف الفرص أهدافا جميلة وغالية كان يؤمن أن الفرق بين الفوضى والنظام ليس وفرة المال بل حُسن الإدارة في عام 1988 وقبل وصول البشير إلى السلطة بعام بزغ نجم إيلا سياسيًا وتنفيذيًا حيث تم تعيينه وزيرًا في حكومة الإقليم الشرقي خلال فترة الديمقراطية الثالثة في عهد الصادق المهدي كانت لحظة فارقة أثبت فيها حضوره كإداري متمكن محاط بالثقة ليصبح لاحقًا جزءًا من تركيبة الدولة في بدايات عهد الإنقاذ فتدرّج في المناصب التنفيذية بثبات فتولى إدارة هيئة الموانئ البحرية لعشر سنوات متواصلة محققًا استقرارًا ملحوظًا في واحد من أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد ثم شغل مناصب وزارية اتحادية في وزارات التجارة الخارجية والنقل والاتصالات وترك فيها كلها بصمات لا تُمحى لم يكن يحب الكلام الكثير لكنه كان دقيقًا حاضرًا صارمًا في الحق نظيف اليد عفيف النفس ابتعد عن الفساد حتى وهو في قلب النظام لكن قمة عطائه وبصمته الأوضح كانت خلال توليه منصب والي ولاية البحر الأحمر لنحو عشر سنوات حيث أحدث فيها ما يشبه المعجزة الإدارية والتنموية فنهضة البحر الأحمر لم تكن تستند إلى ميزانيات ضخمة بل إلى رؤية نادرة وذكاء إداري وأسلوب مباشر لا يلتف ولا يراوغ قاد إيلا هذه النهضة بقليل من المال وكثير من الخيال وكان يشرف على كل مشروع بنفسه يقود سيارته دون موكب يتنقل بين الأحياء يطوف على الشوارع ويقف على كل شجرة تُسقى. لا يكتفي بتقارير تُقدَّم إليه بل يعاين النتائج بعينيه تُروى عنه حكايات كثيرة، قد تبدو غير قابلة للتصديق في مناخ دول العالم الثالث لجوها الأسطوري لكنها الحقيقة كان يرافق تانكرات المياه بنفسه يسقي الأشجار واحدة تلو الأخرى ويقول لمن معه (لا نغادر إلا حين تتأكدوا أن كل شجرة نالت كفايتها من الحياة)

هكذا كان إيلا… قريبًا من الأرض بعيدًا عن المكاتب المخملية قريبًا من الإنجاز بعيدًا عن الأضواء قريبًا من نبض الناس وبعيدًا عن بهرجة السلطة رجل دولة يزرع ويروي وينتظر الثمر بصبر الحكماء في عام 2015 انتقل إلى ولاية الجزيرة وهي من الولايات الكبرى والمزدحمة بالتحديات فواجهها بذات الروح الوثابة والعزيمة والدقة والنهج العملي لم تكن جهوده مقتصرة على البنى التحتية فقط بل شملت الريف والقرى والزراعة والصناعة حيث اهتم بتأهيل المؤسسات الزراعية وتشجيع الصناعات المحلية ومدّ شبكات الطرق إلى القرى المهملة ليعيد لها الحياة

بنى طرقًا شيّد مدارس أطلق مبادرات تنشيط السياحة وبث روحًا جديدة في التعليم والصحة والخدمات وخرج إلى القرى النائية ليحولها إلى بؤر تنمية وعمران وتعامل مع الجزيرة كما تعامل مع البحر الأحمر بلا ضجيج بلا فساد بلا مكاتب مغلقة…كان شعاره الدائم (النتائج قبل الكلام) وهو مبدأ بات نادرًا في السياسة السودانية التي أنهكها الصراخ والوعود الفارغة والخيبات المتراكمة في فبراير 2019 تم تعيين إيلا رئيسًا للوزراء في الأيام الأخيرة لحكم عمر البشير في محاولة يائسة لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد كان النظام الذي يتهاوى قد رأى في إيلا الرجل الوحيد الذي يمكن أن يُنقذ ما يمكن إنقاذه وكان الرئيس المعزول عمر البشير يرى فيه الرجل الأنسب لخلافته لو كُتب للنظام البقاء لكن إيلا كان يعلم بطريقته الهادئة أن السفينة تغرق وأنه جاء متأخرًا إلى مشهد نهايته قد كُتبت لم يكن جزءًا من المشكلة ولم يدّعِ أنه الحل لكنه حاول أن يُدير ما تبقّى بأقل الخسائر وأكبر قدر من المسؤولية بقي في منصبه واقفًا حتى سقوط النظام في أبريل 2019 ثم انسحب بصمت وبهدوء كما عاش دون أن يتسوّل دورًا أو يطلب مجدًا إعلاميًا في زمن تملأه الضوضاء والادعاءات كان محمد طاهر إيلا نموذجًا نادرًا لـرجل الدولة العملي النزيه الذي لم يحتج للشعارات ليُثبت نجاحه لم يكن نجمًا إعلاميًا لكنه كان نجمًا في الميدان في الورش في المدارس في الطرقات في قلوب الناس وموته ليس مجرد غياب رجل بل هو خسارة وطنية حقيقية لرصيد إداري وأخلاقي وإنساني لقد ترك أثرًا وذاكرة ونموذجًا وجوابًا على سؤال ظل يؤرقنا طويلًا

هل يمكن للإدارة أن تكون نظيفة وفعّالة في آنٍ معًا؟ نعم حين يتولاها رجال كـإيلا رحل محمد طاهر إيلا وترك وراءه مدنًا تنبض باسمه وقرى تتغنّى بذكراه ومشاريع لم تكتمل وأشجارًا ستظل تروي حكاية رجل كان يسقيها بنفسه كأنما كان يُسقي الأمل في أرض عطشى لا يطلب شكرًا ولا يعرف الاستعراض

نم قرير العين يا محمد طاهر إيلا…فقد فعلت ما بوسعك ولم تبخل على وطنك بجهد أو وقت أو عرق كنت من القلائل الذين عاشوا وماتوا وهم يصنعون التاريخ بصمتٍ وصدقٍ وعرق جبينهم لا بأقلامهم ولا بمنابرهم

كنت الإداري النبيل رجل الدولة الحقيقي الذي لم تغره الأضواء ولم تُرهبه المسؤولية ولم تُدنّسه السلطة سِرت في دربٍ وعِر،ط وخرجت منه نظيفًا وافر العطاء نقيّ السيرة عزيز النفس.

ستذكرك مدن البحر الأحمر وستحملك طرقات الجزيرة وستبكيك الأشجار التي لم تعد تجد يدًا تسقيها بحنان ستفتقدك المكاتب البسيطة التي كنت تدخلها دون حاشية وتحنّ إليك الورش التي كنت تتفقدها عند الفجر والمزارع التي شهدت خطواتك وسؤالك عن الزرع قبل البشر لقد قلت كلمتك عبر الأفعال لا التصريحات وبنيت صرحك في وجدان الناس لا في سجلات الإعلام حين يُذكر اسمك بعد اليوم سيُقال هكذا يكون المسؤول… وهكذا يُخلّد الرجال ولأن الأوطان تُبنى بالقدوة فإن سيرتك ستبقى درسًا للأجيال القادمة في النزاهة والجدية والاقتراب من الناس والتواضع في السلطة والعمل في الميدان

ولأن رحيلك لم يكن كأي رحيل فسيظل حزنك في قلوب السودانيين طويلًا لأنك كنت نقطة ضوء نادرة في زمن العتمة… وشجرة ظل في هجير الفشل رحمك الله يا محمد طاهر إيلا…

رحمةً واسعة جزاء ما قدّمت من جهد وعطاء وسقاك من أنهار جنته كما كنت تسقي الأشجار لتُعطي الحياة

اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة وبارك في إرثه بين الناس واحفظ لنا سيرته لتكون نبراسًا لكل من أراد أن يخدم الوطن بإخلاص

سلام عليك في الخالدين…

وسلام على روحك الطاهرة التي عرفت طريقها إلى السماء بعد أن أنهكتها الطرقات وأتعبها الإخلاص وودّعتها الأرض التي أحبتها وأحبّته وداعًا محمد طاهر إيلا… رجل الدولة الذي قلّ نظيره ورحل وفي يده عرق… لا ورق

Exit mobile version