تقرير: عبدالعظيم البشرى
تشهد السياسة الأميركية تجاه السودان تحولًا نوعيًا هو الأجرأ منذ اندلاع الحرب بين الجيش ومليـ..ـشيا الدعم السريع، إذ خرجت واشنطن عن دبلوماسية الغموض التقليدية لتتحدث هذه المرة بوضوح غير مسبوق عن مسؤولية المليـ..ـشيا في الجرائم والانتهاكات الممنهجة ضد المدنيين.
تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو جاءت بمثابة لحظة فاصلة في الموقف الأميركي، بعد شهور من التردد.
لغة جديدة من واشنطن:
قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إن قوات الدعم السـ..ـريع تعد “مشكلة جوهرية” في الصراع المسلح الذي يدور في السودان، متهمًا إياها بارتكاب “انتهاكات ممنهجة” بحق المدنيين.
وفي تصريحات أدلى بها خلال اجتماع في كندا مساء الأربعاء 12 نوفمبر 2025، أوضح أن الملـ..ـيشيا “تقول إنها ملتزمة بحماية المدنيين لكنها لا تلتزم بذلك على الأرض”، مشيرًا إلى أنها “متورطة في فظائع تشمل الاغتصاب والقتل الجماعي والتشريد”.
وشدد الوزير الأميركي على ضرورة وقف تدفق السلاح إلى السودان، قائلًا: “بعض الدول تمد أطراف الصراع في السودان بالسلاح، ويجب أن يتوقف ذلك فورًا، لأن استمرار تدفق السلاح يعني استمرار إراقة الدماء.”
وأضاف أن قوات الدعم السـ..ـريع تحاول التنصل من مسؤولية الفظائع بإلقائها على عناصر “منفلتة”، لكنه أكد أن “الأمور ليست كذلك، بل تُمارس الانتهاكات بشكل ممنهج ومنظم”. وفي أقوى تصريح من نوعه، قال روبيو: “إذا كان تصنيف الدعم السـ..ـريع كمنظمة إرهـ..ـابية يساعد على حل المشكلة، فليكن ذلك.”
تحول تحت الضغط:
يرى محللون أن التحول الأميركي لم يكن وليد لحظة دبلوماسية، بل نتيجة لتصاعد الضغط الداخلي والخارجي على الإدارة الأميركية بعد مجازر مدينة الفاشر.
وفي حديث خاص لـ دارفور الآن، قال المحلل السياسي والقيادي السابق في قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية – محيي الدين إبراهيم جمعة، إن التصريحات الأخيرة “إيجابية وغير تكتيكية”، موضحًا أنها “جاءت نتيجة ضغوط شعبية وحقوقية داخلية في الولايات المتحدة وخارجها، بعدما كشفت التقارير حجم الجرائم التي ارتكبتها مليـ.ـشيا الدعم السـ..ـريع في دارفور”.
وأضاف جمعة أن المنظمات الحقوقية طالبت بإدانة الجرائم ومحاسبة قادة المليـ..ـشيا، ووقف الدعم الإماراتي لها من سلاح وغذاء وتغطية إعلامية ودبلوماسية.
وأشار إلى أن “هذه التصريحات إن ثبتت كموقف أميركي رسمي، يمكن أن تمهد الطريق لإنهاء الحرب، وتعيد رسم العلاقات الإقليمية وفق توازن جديد يرفض منطق المليـ..ـشيا ويفرض المحاسبة الدولية”.
خطوة إيجابية:
فيما رأى الدكتور إدريس لقمة، القيادي في حركة العدل والمساواة أن الموقف الأميركي، وإن جاء متأخّرًا، يمثل خطوة إيجابية تعكس إدراكًا دوليًا بجرائم المليشيا. وأكد لقمة في تصريح خاص لـ”دارفور الآن” أن الإدانة والشجب وحدها “غير كافيتين” لأن المليـ..ـشيا لا تحترم قرارات المجتمع الدولي، مشدّدًا على أن الحل الفعّال يمر عبر تصنيف هذه المجموعات كمنظمات إرهـ..ـابية ومن ثم فرض عقوبات صارمة واستهداف قادتها قانونيًا.
وأضاف أن التسمية الرسمية كمنظمة إرهـ..ـابية ستؤدي سريعًا إلى قطع خطوط الدعم عن المليـ..ـشيا وكشف الدول المساعدة لها، وهو ما يراه السبيل الوحيد لإنقاذ المدنيين وإيقاف إراقة الدماء. وأشار لقمة إلى أن المجتمعات المتضرِّرة في الفاشر وغيرها تعيش حالة تهميش وعزل اتُّخذت ضدها سياسات عنصـ..ـرية دفعت كثيرين إلى الانزواء أو التشرّد، وأن المسألة الآن تحتاج لرد دولي حاسم يضمن محاسبة المجرمين ونزع قدرة الميليـ..ـشيا على إعادة إنتاج العنف.
موقف أقل من حجم الفظائع التي ارتُكبت على الأرض:
وفي سياق القراءات السياسية لتصريحات وزير الخارجية الأميركي، اعتبر الصادق خميس إبراهيم (برانقو)، الأمين العام لحركة/جيش تحرير السودان – المجلس الانتقالي، أن التحولات في الموقف الأميركي ليست جديدة، بل تأتي امتدادًا لنهج ثابت تحكمه مقاربتان راسختان في السياسة الخارجية لواشنطن.
وقال برانقو في تصريح لـ”دارفور الآن” إن التباينات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري انعكست تاريخيًا على طريقة تعاطي الولايات المتحدة مع ملفات الحرب والسلام في المنطقة، مشيرًا إلى أن واشنطن توظف سياسة “العصا والجزرة” لتحقيق أهداف استخبارية واستراتيجية بعيدة المدى، بغض النظر عن الاعتبارات الإنسانية.
وأضاف أن الموقف الأميركي تجاه جرائم مليشيا الدعم السريع، رغم قسوته اللفظية، لا يزال أقل من حجم الفظائع التي ارتُكبت على الأرض، مشيرًا إلى أن العالم بأسره شهد حصار الفاشر وموت النساء والأطفال جوعًا أو تحت القصف العشوائي بالقذائف والصواريخ.
وأكد برانقو أن التصريحات، رغم ما تحمله من لهجة غير مسبوقة، لا يمكن تقييمها بعيدًا عن حسابات المصالح الأميركية التي تظل، بحسب تعبيره، فوق كل الاعتبارات، مضيفًا أن اختبار جدية واشنطن سيكون في الانتقال من الإدانة الكلامية إلى الإجراءات العملية ضد مليشيات آل دقلو الإرهابية وداعميها الإقليميين.
الخرطوم ترحب وتطالب بالمحاسبة:
رحبت الحكومة السودانية بالتصريحات الأميركية الجديدة، واعتبرتها خطوة مهمة نحو تصحيح الرؤية الدولية حول الصراع. وقال وزير الخارجية والتعاون الدولي السفير محيي الدين سالم، في تصريح لوكالة السودان للأنباء، إن تسمية الأشياء بمسمياتها وتوجيه الاتهام المباشر للمليـ..ـشيا الإرهـ..ـابية والمرتزقة الذين استعانت بهم في ارتكاب المجازر بحق المدنيين الأبرياء “يمهد الطريق لتصحيح وجهة نظر المجتمع الدولي تجاه ما يجري في السودان، ويباعد بين جيش نظامي قومي ومليشيا قبلية خارجة عن القانون”.
وأكد الوزير أن اعتراف واشنطن بوحشية الممارسات التي ترتكبها المليـ..ـشيا وضرورة وقف تزويدها بالسلاح “يرسل رسالة قوية لبقية الدول التي تساعد المليـ..ـشيا، سواء بتزويدها بالسلاح أو بالسماح باستخدام أراضيها لإدخال المرتزقة”.
وشدد على أن الوقت قد حان لمحاسبة “ميليـ..ـشيا آل دقلو”، وأن تأخر المجتمع الدولي في الاستجابة لنداءات السودان بشأن تنفيذ قرارات مجلس الأمن — وعلى رأسها القرار 2736/2024 الخاص بالسماح بإدخال الإغاثة إلى الفاشر — أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية هناك.
وأشار سالم إلى أن القوات المسلحة السودانية والقوات المشتركة هي التي فتحت الطريق لآلاف المدنيين للخروج من الفاشر قبل انسحابها التكتيكي حفاظًا على الأرواح والممتلكات، مؤكدًا أن المؤسسة العسكرية تمارس واجبها الدستوري في حماية الأرض والعرض.
وفي ختام تصريحه، أعرب عن تطلعه لأن تكون تصريحات الوزير الأميركي “بداية حقيقية لمعاملة المليـ..ـشيا الإرهـ..ـابية بما تستحق من محاسبة ومساءلة كل من عاونها أو روّج لها سياسيًا وإعلاميًا”
الكتلة الديمقراطية: يجب ترجمة الموقف إلى أفعال:
وفي السياق ذاته، أصدرت الكتلة الديمقراطية السودانية بيانًا رحبت فيه بالتصريحات الحاسمة لوزير الخارجية الأميركي، التي حمّلت مليـ..ـشيا الدعم السـ..ـريع مسؤولية الجرائم والانتهاكات الممنهجة بحق المدنيين وفتحت الباب أمام تصنيفها كمنظمة إرهـ..ـابية.
وأكد الناطق الرسمي باسم الكتلة الدكتور محمد زكريا فرج الله أن هذا الموقف يمثل تحولًا مهمًا في فهم المجتمع الدولي لطبيعة الصراع في السودان، ويصحح الصورة المغلوطة التي سعت المليـ..ـشيا وداعموها لترويجها.
ودعت الكتلة إلى ترجمة هذا الموقف إلى خطوات عملية تشمل فرض عقوبات مباشرة على قادة المليـ..ـشيا ورعاتها الإقليميين، والضغط على الدول التي تزودها بالسلاح لوقف الإمدادات فورًا.
كما شددت على ضرورة عدم السماح باستخدام الهدن الإنسانية كغطاء لإعادة تنظيم صفوف المليشـ..ـيا أو تبييض جرائمها.

