صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
في المشهد السياسي السوداني، تبدو العلاقة بين السياسي المدني والسمسار في الأسواق الشعبية علاقة متطابقة إلى حد يصعب معه التمييز بين من يسوّق البضاعة بحثاً عن ربح عاجل، ومن يسوّق الشعارات بحثاً عن سلطة غائبة.. “السمسار”، هو ذلك الوسيط المنفلت ، الذي يتقنص الفرص، ويضخم السلع الكاسدة، ثم يقتطع لنفسه الحصة الأكبر من العائد، حتى لو خسر صاحب البضاعة الأصل. هذا النموذج، بكل ما يحمله من انتهازية وغياب للضوابط، يجد تجسيداً له في المشهد السياسي السوداني… شعارات براقة تُباع للجماهير كسلع ثمينة، بينما الحقيقة أنها مجرد واجهات تخفي وراءها مصالح حزبية ضيقة، بل أحياناً مصالح شخصية للقيادات التي تحرك قواعدها كما يحرك السمسار زمام البيع والشراء… تحولت الأحزاب والتنظيمات المدنية إلى ما يشبه “سماسرة السياسة”، يتاجرون بآمال الشعب ومستقبل الوطن لتحقيق مكاسب ضيقة، غالبًا ما تنتهي في جيوب قياداتها.
رغم أنّ هذه التنظيمات ترفع دائماً شعار رفض الانقلابات العسكرية، إلا أن الوقائع السياسية تُظهر عكس ذلك تماماً. فما من انقلاب عسكري في السودان إلا ووقفت خلفه قوى مدنية، تخطط وتمهّد وتفاوض العسكريين سراً، ثم تتركهم في الواجهة عندما يشتعل الغضب الشعبي… إن العلاقة بين الأحزاب السياسية والانقلابات العسكرية في السودان هي علاقة جدلية معقدة؛ فالأحزاب التي ترتفع أصواتها اليوم منتقدةً الحكم العسكري، هي ذاتها التي مهدت له الطريق في الماضي. يكشف تاريخ السودان الحديث أن الصراعات الحزبية الحادة والفشل في إدارة التوافق الوطني كانا دائمًا الذريعة التي تفتح شهية العسكريين للسلطة. وما إن يتم انقلاب، حتى تظهر أحزاب معارضة جديدة، أو قديمة بحلة جديدة، لتحريض الجماهير ضد العسكر، ليس من أجل الوطن، بل من أجل العودة إلى السلطة عبر تمهيد الأجواء لانقلاب آخر، في حلقة مفرغة من التآمر الذي يدفع ثمنه الشعب السوداني.
على النقيض من هذا المشهد الحزبي المتخم بالمصالح الشخصية، تظهر حقيقة ثابتة تتعلق بدور المؤسسة العسكرية ( القوات المسلحة السودانية). عكس الصورة التي تسعى بعض القوى المدنية لرسمها، ظل الجيش، بكل ما له وما عليه، الجهة الأكثر التصاقاً بالمصالح الوطنية والأمن القومي، لأن مسؤولية الحفاظ على البلاد ليست شعاراً في منشور حزبي، وإنما واقع يومي يواجهه الجنود في الميدان… والدليل كانت حرب أبريل 2023، التي اندلعت بشكل مفاجئ ومباغت، كانت القوات المسلحة السودانية خط الدفاع الأخير، حين تفاجأ السودانيون بأن الخطر لم يكن سياسياً فقط، بل وجودياً، وأن غياب القوات المسلحة كان سيترك البلاد نهباً للفوضى ولتمدد المليشيات والمشاريع الإقليمية المتربصة.. في الوقت الذي كانت فيه بعض القوى السياسية تبحث عن دور لها في الفوضى، كان الجيش يخوض معركة وجودية للدفاع عن وحدة السودان الجغرافية وسيادته.
إن المطالبة بحكومة مدنية هي حق مشروع وأساس لأي دولة ديمقراطية مستقرة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في السياق السوداني هو: عن أي مدنيين نتحدث؟ لقد فضح الأداء التاريخي للأحزاب السياسية الحقيقة الغائبة عن وعي المواطن. فالأحزاب التي عجزت عن تحقيق الديمقراطية داخل هياكلها التنظيمية، والتي انشغلت بالصراعات الداخلية والمحاصصة، وصل حد المتاجرة بالأمن القومي والرهان بأرواح الممتلكات الشعب وحقوق الضحايا مقابلاً لكرسي الحكم، لا يمكن أن يؤتمنوا على بناء دولة ديمقراطية حديثة… وقد فقدوا ثقة الشارع، وأصبح يُنظر إليهم كجزء من المشكلة لا الحل.
قبل أن نطالب بعودة المدنيين إلى الحكم، يجب أن نطالب أولاً ببناء قوى مدنية جديدة وصادقة، تتجاوز أمراض الماضي وتضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار… إن السودان بحاجة إلى أحزاب تنبع من قواعدها، وتملك برامج واضحة وملموسة، وتستعيد ثقة المواطن عبر الممارسة الشفافة والنزيهة. فبدون وجود بديل مدني حقيقي وموثوق، ستظل المطالبة بحكومة مدنية مجرد شعار أجوف، وستبقى البلاد تدور في فلك “سماسرة السياسة” الذين يبيعون الوطن قطعة قطعة في سوق المصالح الضيقة.
الشرعية وحدها لا تكفي إن غاب عنها عامل الثقة. فكيف يمكن تسليم مقاليد الحكم لقوى مدنية تفتقد للمصداقية، وتتقن فن المناورات أكثر مما تتقن فن إدارة الدولة؟ وكيف يمكن لجماهير أنهكتها الوعود الكاذبة أن تمنح تفويضاً جديداً لمن جربتهم مراراً ولم يجدوا فيهم إلا إعادة تدوير للأزمات؟ إن الخلل ليس في مفهوم الحكم المدني، وإنما في غياب مؤسسات حزبية حقيقية قادرة على تمثيل الشعب لا استغلاله، وعلى بناء مشروع وطني لا صفقة مؤقتة.


