صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
. في زمنٍ تَتَهاوى فيه الأوطان تحت وطأة الرصاص، وتَتَشظّى فيه الحقائق على مذبح الانقسام، كان يُفترض بالصحافة أن تكون هي البوصلة التي تُرشد السفن التائه، والمرآة التي تعكس وجه الحقيقة دون رتوش… لكن، ويا للأسف، يبدو أن رياح السياسة العاتية قد جرفت شراع الصحافة السودانية بعيداً عن مرافئ المهنية، لتغرق في بحرٍ الهتافات الصاخبة والشعارات الجوفاء.
لقد كانت الصحافة، في جوهرها، هي حارس البوابة، وهي العين الساهرة على مصالح الجمهور، مهمتها النبيلة هي جمع المعلومات، تحليلها بدقة، والتحقق من صدقها، ثم تقديمها كزادٍ معرفي للجمهور ليصنع رأيه المستنير. هذه الرسالة الاجتماعية السامية، التي تجعل من الصحفي رقيباً على السلطة موثقاً للتاريخ، باتت اليوم مجرد ذكرى باهتة. فبينما يشتد أوار الحرب الوجودية التي تحدد مصير البلاد والشعب، انصرفت أقلام ومنابر الصحافة المحلية إلى معارك هامشية، لتصبح مجرد صدى خافت لضجيج المعسكرات المتصارعة، بدلاً من أن تكون صوت الحقيقة الذي لا يخشى اللوم… إنها مأساة مهنة عظيمة، تخلت عن واجبها في أحلك الظروف، وفضلت الانحياز على الحياد، والترويج على التوثيق. ففي خضم هذا المشهد القاتم، حيث يختلط صوت البارود بصوت الشعارات، بات السؤال المؤرق يتردد في الأذهان: هل أضاعت الصحافة السودانية طريقها، وغرقت في مستنقع الهتافات السياسية، تاركة الجمهور وحيداً يبحث عن شذرات الحقيقة في منابر خارجية أو بين ثنايا العالم الافتراضي؟ إن هذا التنازل عن الدور المهني ليس مجرد خطأ تكتيكي، بل هو خيانة للثقة العامة، تفريط في أثمن ما تملكه الصحافة: مصداقيتها.
إنّ الوظيفة الأساسية للصحافة، كما هو متعارف عليها عالمياً، هي توفير المعلومات والحقائق التي تساعد الجمهور على بناء رأي عام مسؤول، وتعد بذلك مهنة رقابية تسلط الضوء على الأحداث الأكثر أهمية… لكن ما يجري في المشهد الصحفي السوداني يسير في اتجاه معاكس تماماً لتلك الرسالة… لقد أدار الجمهور السوداني ظهره لوسائل إعلامه المحلية، سواء كانت صحفاً مطبوعة، إذاعات مسموعة، أو شاشات تلفزيونية، لأنها لم تعد تقدم له ما يشبع نهمه للمعرفة الحقيقية حول الأحداث التي تهمه. وبدلاً من ذلك، أصبح الاعتماد الكلي على مصادر خارجية مثل قناة الجزيرة والعربية والوكالات العالمية، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي أفرزت نجوماً محليين تفوقوا شهرة وتأثيراً على كبار الصحافيين التقليديين… هذا الانصراف الجماهيري لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة لغرق الأجسام الصحفية نفسها في مستنقع الصراعات السياسية الداخلية… فمتابعة نشاط هذه الأجسام، سواء في القاهرة أو كمبالا أو بورتسودان، تكشف عن أجندات بعيدة كل البعد عن واجبات المهنة… لقد باتت هذه الأجسام منقسمة إلى درجة يصعب معها على الصحافي المهني تحديد موقفه أو المعسكر الذي ينتمي إليه. هناك “الاتحاد الأثري العتيق” الذي تجاوز أعضاء مكتبه التنفيذي سن الشيخوخة ويصرون على الخلود في مناصبهم، وهناك “النقابة العصرية الفاخرة” التي تتطلب بطاقة عضويتها تصريحاً من أحزاب اليسار المتطرف، وبين هذين القطبين المتصارعين سياسياً، تظهر روابط إقليمية مناطقية ترفض الخضوع لشروط أي منهما، لكنها أيضاً تشترط للانضمام إليها هوية المنطقة الإقليم، وكل طرف يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
إن هذا الانقسام ليس صراعاً مهنياً حول تطوير الأداء أو حماية حقوق الصحافيين، بل هو صراع سياسي بامتياز، لا علاقة له بمشكلات المهنة الحقيقية… لقد تحولت هذه الأجسام، التي كان يُفترض بها أن تكون مظلة حامية للصحافيين ودافعة لتطوير المحتوى، إلى ساحات اقتتال سياسي، حيث تُباع وتُشترى الولاءات، وتُفرض الأجندات الحزبية على حساب المصلحة العامة… هذا التشرذم لم يقتصر تأثيره على فقدان المصداقية فحسب، بل أدى إلى تهميش الأصوات المهنية الحقيقية التي لا تجد لها مكاناً في أي من هذه المعسكرات المتناحرة. لقد أصبح الانتماء السياسي هو المعيار الأوحد، بينما تلاشت معايير الكفاءة والنزاهة والحياد.
في خضم حرب وجودية طاحنة، كان يجب على الصحافة السودانية أن تكون في صف الحقيقة، وأن توثق الأحداث المصيرية التي ستحدد مستقبل البلاد والشعب، من تشريد ونزوح ودمار، وأن تكون صوتاً للمتضررين. لكنها، للأسف، انصرفت إلى التقاط الصور البروتوكولية السمجة، والهتاف خلف شعارات الأحزاب المتصارعة والجيوش المتحاربة… لقد اختارت أن تكون أداة ترويج بدلاً من أن تكون أداة توثيق، لتفقد بذلك مصداقيتها وجمهورها في اللحظة التي كانت فيها الحاجة إليها أشد ما يكون… إن هذا التنازل عن الدور المحوري في توثيق التاريخ يمثل خسارة لا تُعوض للذاكرة الوطنية، ويبقى الجمهور في حالة من الضبابية، مما يفتح الباب واسعاً أمام الشائعات والمعلومات المضللة التي تزيد من حدة الاستقطاب والانقسام المجتمعي.
إنّ ما نشهده اليوم ليس مجرد تراجع في الأداء الصحفي، بل هو أزمة وجودية تهدد دور الصحافة كقوة دافعة للتغيير الإيجابي… لقد أثبتت التجارب أن غياب الصحافة المهنية المستقلة يترك فراغاً يملؤه التضليل والشائعات، مما يزيد من تعقيد الأزمة الوطنية. ففي ظل الأوضاع العسكرية والسياسية العصيبة التي تهدد مستقبل البلاد وشعبه، لا يمكن للجمهور أن يبني رأياً عاماً مسؤولاً دون مصدر معلومات موثوق محايد… لذلك، فإن المطالبة اليوم يجب أن تتجه نحو إعادة اكتشاف الرسالة الأصلية للصحافة السودانية، وعلى الصحافة أن تخرج من صندوق السياسة الضيق، وأن تتوقف عن كونها مجرد بوق لهذا الطرف أو ذاك.
إن الدور الرقابي للصحافة لا يتحقق بالانحياز، بل بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع، وتوجيه عدسة النقد إلى كل من يهدد مصالح الوطن والمواطن… وعلى الصحافيين السودانيين، أفراداً واجسام، أن يدركوا أن بقاءهم المهني مرتبط باستعادة ثقة الجمهور، وهذه الثقة لن تعود إلا عندما يرون صحافة تكرس جهودها لتوثيق الحقيقة، وكشف الفساد، وتسليط الضوء على معاناة الناس، بدلاً من الانشغال بالصراعات الداخلية والبروتوكولات الفارغة.
إنها دعوة للصحافة لتكون ضمير الأمة، وسجل التاريخ، وأن تعود إلى دورها كـ “سلطة رابعة” حقيقية يعتمد عليها الجمهور لبناء وعي مسؤول في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان… الرهان على استعادة هذا الدور هو الرهان على مستقبل البلاد، فبدون صحافة حرة ومسؤولة، تظل الحقيقة أسيرة، ويظل مصير الأمة معلقاً على أهواء المتصارعين.



