صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
قبل عقود، وفي وقت كان السودان ينعم فيه باستقرار نسبي، أطلق المفكر والدبلوماسي الدكتور منصور خالد صرخة تحذير في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل”… لقد شخص بدقة وألم “القطيعة البائنة بين الفكر والعمل” في الممارسة السياسية السودانية، مشيراً إلى أن غياب الرؤية العقلانية والتحليل الشامل هو أصل الداء الذي يعيق تقدم البلاد. كان يرى أن على النخبة التي حظيت بفرصة العمل العام وخبرت مناهج البحث، أن تتجه إلى التدوين والتأصيل الفكري لخلق حوار قائم على الحقيقة لا التحريض، وعلى العقلانية لا الغوغائية.
اليوم، وبعد أن اشتعلت نيران الحرب لتلتهم الأخضر واليابس، تبدو كلمات منصور خالد وكأنها نبوءة تحققت بأبشع صورها… لقد تسيد الخطاب الغوغائي المشهد، وارتفع صوت الكذب والتزييف، بينما توارى صوت العقل خجلاً أو خوفاً. أصبحنا نعيش في زمن صار فيه التناقض هو القاعدة، واللامنطق هو الحاكم، حيث يتبع الجمهور قادته السياسيين بعيون معصوبة وآذان صماء، في مشهد عبثي يجسد مأساة وطن أدمن ساسته الفشل.
في الحرب الدائرة، يبرز التناقض السياسي في أوضح صوره وأكثرها إيلاماً لدى القوى السياسية التي تناصر مليشيات الدعم السريع… ترفع هذه القوى شعارات براقة تتحدث عن الديمقراطية، وحكم القانون، والدولة المدنية، وتزعم أن المليشيات تقاتل من أجل تحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحرية والعدالة. لكن على الأرض، تتكشف حقيقة مغايرة تماماً؛ حقيقة دامية يرويها ضحايا الانتهاكات اليومية.
إن الممارسات الممنهجة لمليشيات الدعم السريع، والتي وثقتها منظمات حقوقية دولية ومحلية، ترسم صورة قاتمة تتناقض بشكل صارخ مع الخطاب السياسي الذي يسوقه مناصروها… تشمل هذه الانتهاكات القتل خارج نطاق القانون، والنهب، وتدمير الممتلكات، وترويع المدنيين، والعنف الجنسي المستخدم كأداة حرب لإذلال المجتمعات المحلية وكسر نسيجها الاجتماعي. والتقارير الواردة من المدن والقرى التي سيطرت عليها المليشيات، تتحدث عن فظائع ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
أمام هذا الواقع، يقف الساسة المناصرون للمليشيا في حالة إنكار تام، يصرون على تجميل صورة قاتمة، ويجهرون بالكذب لتبرير ما لا يمكن تبريره… يتحدثون عن “قضية الشعب” بينما الشعب هو أول ضحايا حلفائهم… يتغنون بالمدنية والديمقراطية، في حين أن ممارسات المليشيا على الأرض تقوض كل أسس الدولة والقانون، وتحول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق. هذا الانفصام الحاد بين الشعار والممارسة لا يكشف فقط عن أزمة أخلاقية عميقة لدى هذه النخبة السياسية، بل يوضح أيضاً مدى استخفافها بعقول السودانيين وذاكرتهم. والأغرب من ذلك، أن من بين أبرز منتقدي “الكيزان” والإسلاميين في صفوف قيادات المليشيا، نجد شخصيات إسلامية سابقة متهمة بتأسيس العنف السياسي في الجامعات والمشاركة في ممارسات قمعية، مما يضيف طبقة أخرى من العبثية على المشهد.
في نهاية المطاف، يكشف الواقع المرير في المدن التي تسيطر عليها مليشيات الدعم السريع عن غياب تام للمنطق والموضوعية في الشعارات التي ترفعها القوى السياسية المتحالفة معها… والحديث عن بناء دولة مدنية ديمقراطية يصبح ضرباً من الهذيان عندما تكون أداة تحقيقه هي مليشيا لا تعترف بقانون سوى قانون القوة، ولا تحترم حقاً سوى حق السلاح. تتحول شعارات “الحرية والسلام والعدالة” إلى مجرد غطاء لأسوأ أنواع الانتهاكات، وتفقد كل مصداقيتها على أرض الواقع الذي يشهد على القتل والنهب والترويع.
إن هذه الحالة من التناقض الفج لا تخدم سوى إطالة أمد الحرب وتعميق جراح الوطن… إنها تكشف عن نخبة سياسية فقدت بوصلتها الأخلاقية والوطنية، وأصبحت على استعداد للتحالف مع أي طرف، مهما كانت جرائمه، في سبيل تحقيق مكاسب سياسية ضيقة أو العودة إلى السلطة. لقد سقطت الأقنعة، وبات من الواضح أن الأزمة السودانية ليست مجرد صراع عسكري، بل هي في جوهرها أزمة فكر وأخلاق، أزمة نخبة فشلت في الارتقاء إلى مستوى تضحيات شعبها، وأدمنت الفشل كما شخصه منصور خالد قبل عقود. ولن يكون هناك مخرج من هذا النفق المظلم إلا بعودة صوت العقل، وتغليب مصلحة الوطن على المصالح الحزبية الضيقة، ومحاسبة كل من أجرم في حق هذا الشعب، سواء بالسلاح أو بالكلمة المضللة.

