صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
يا حاج أبكر كيف حالكم الليلة إن شاء الله إنتو بخير؟
سؤال طرحناه للإستفسار عن حال أهلنا في فاشر السلطان… لكن الرد كان مؤلماً للضمير الإنساني.
جاء الردُ وصفاً لواقعٍ أليم، تتراقص أشباح الجوع والمرض على جدران المدينة، وحاج أبكر جالس هزيل، عيناه الغائرتان تحملان حكايات ألف عام من الألم.
يتساءل بصوت خافت، يكاد يبتلعه صدى القذائف المتساقطة، بينما يلتصق جسده النحيل بالأرض الباردة، محاولاً أن يجد دفئاً لم يعد موجوداً في هذا العالم القاسي: هل أنا من جيش الكيزان المدّعى؟ لا أتذكر شيئاً سوى الجوع، الذي ينهش أحشائي كوحش كاسر، يمزقني من الداخل، ويجعلني أرى الأوهام. والمرض الذي يتسلل إلى عظامي، ليتركني أرتجف في ليالي الفاشر الباردة، ساحباً آخر رمق من القوة.
وهل هذا هو جزاء من انحاز لجيش الوطن؟ لم أحمل سلاحاً قط، لم أعرف سوى رائحة الأُمباز اليابس الذي نغامر من أجلها، نحمل أرواحنا على الأكف لنأكل كي نعيش، وصوت زوجتي رفيقة السنين وهي ترتل آيات القرآن بصوتها العذب الذي كان يملأ البيت سكينة.
هل ذنبي أنني ولدت هنا، في هذه المدينة التي أصبحت ساحة حرب، بتنا نمسي ونصحو على أصوات الرصاص والقذائف؟ هل ذنبي أنني مجرد عجوز منتهي الصلاحية، لا حول لي ولا قوة، أُرمى في أتون صراع لا أفهمه؟ لماذا نحن بالذات نكون مرمى نيران المليشيا؟ كان بيتنا يوماً دافئاً، يضج بالضحكات والقصص والحكايات.
كانت رفيقتي تعدُّ لنا الطعام القليل الذي نملكه، لكنه كان يملأ قلوبنا بالرضا، وأبنائنا من حولنا نحكي لهم قصص الأبطال والشجعان، لنغرس فيهم حب الوطن، ولن أندم عليها رغم فقدي وفراقهم المُر، فقد رووا بدمائهم الطاهرة أرض أجدادهم ببسالة ولم يتخازلوا.
القذائف تمطر علينا كل يوم تسقط بلا رحمة، تحوّل كل جميل إلى رماد… سقطت عائلتي كلها، واحداً تلو الآخر، أمام عيني، دون أن أستطيع فعل أي شيء… أصبحت وحدي، أصارع الجوع والمرض، وأرى الموت يرقص حولي في كل زاوية، يتربص بي.
لماذا نحن البسطاء؟ ما الذي فعلناه لنستحق كل هذا العذاب؟ هل نحن أعداء السلام؟ هل نحن من يمنع الحرية والعدالة التي تتشدق بها قادة المليشيا؟ هل نحن من يستحق أن يُحرم من أبسط حقوقه في الحياة؟ هل هذا هو السلام الذي وعدونا به؟.
يقولون إنهم جاءوا بحكومتهم ليحققوا السلام، ليؤسسوا نظاماً ودولة تجلب الحرية والعدالة لشعب السودان الجديد!… لكن الشكوك تصارع فكري، لأني لا أرى سوى الدمار الذي يطال كل شيء، لا أسمع سوى صرخات الألم التي تملأ الأجواء، وأنين الجرحى، وبكاء الأطفال.
هل السلام يعني أن يموت الأطفال جوعاً وعطشاً؟ هل العدالة تعني أن تُهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتُدمر الأحلام؟ هل الحرية هي أن نعيش في خوف دائم، ننتظر الموت في أي لحظة، أو أن نُجبر على النزوح والتشرد؟ أين هي وعودهم بالرخاء والازدهار؟ أين هي أحلامهم بوطن يسوده الأمن والسلام؟أم أنهم قصدوا عكس الشعار؟ يريدون الأرض خالية من ساكنيها؟ وإلا لما يصفٌُون الأبرياء العزل بجريرة غيرهم؟ لا..لا تساورني الشكوك في قولهم والفعل، بل أصبحت شبه متيقن.
بأنهم يريدون الأرض؟ يريدون التخلص منا، أو تهجيرنا من ديارنا، لتبقى لهم الأرض خالية، يسيطرون عليها كيفما شاءوا؟.
الواقع الذي أعيشه يعكس ذلك بوضوح، أرى الناس يفرون من بيوتهم، يتركون كل شيء خلفهم، لا يملكون سوى أجسادهم المنهكة… أرى الجثث في الشوارع، لا أحد يدفنها، تتحول إلى طعام للكلاب الضالة.
هل هذا هو مصيرنا؟ أن نكون مجرد أرقام في سجلات الحرب، أو أن نختفي من الوجود ليحل محلنا آخرون، ويصبح تاريخنا مجرد ذكرى باهتة؟ هل سيأتي الفرج؟.
في كل ليلة، أنظر إلى السماء المظلمة، أرى النجوم تتلألأ، وكأنها تهمس لي بأسرار الكون، أو ربما هي أرواح أحبائي الذين رحلوا، يراقبونني من بعيد.
أتساءل، هل سيأتي الفرج؟ هل سينتهي هذا الكابوس الذي يطاردني في صحوي ومنامي؟، هل سأرى يوماً الفاشر تعود كما كانت، مدينة للسلام والمحبة، تضج بالحياة والبهجة؟ أم أنني سأظل أصارع الجوع والمرض، حتى يبتلعني الظلام الأبدي، وأصبح مجرد ذكرى أخرى في هذه المدينة المنسية؟ لا أعرف الإجابة، لكنني أتمسك بخيط رفيع من الأمل، أمل أن يأتي يوماً، تشرق فيه الشمس على الفاشر من جديد، وتجلب معها السلام الذي طال انتظاره، وتعود الحياة إلى طبيعتها، وينعم الأطفال بالأمان الذي حُرموا منه.. ذلك هو جوابي الذي تنتظرون، يعكس الحال والأحوال، مع تمنيات أن تكونوا في أفضل حالاً منا، وفي أحسن الأحوال، وأن لا يرينا الله فيكم يوماً تعيشون ما نعانيه.