ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في عالم السياسة السودانية قلما نجد من خبر ساحات القتال وذاق مرارة الحرب وفقد من ذويه ومناصريه ثم نادى بصدق إلى السلام والمصالحة دون مزايدة أو انتهازية الفريق مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة هو أحد هؤلاء القلائل رجل دخل صفوف العمل المسلح مبكرًا حين انضم إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 1985 وظل مقاتلًا شرسًا في صفوفها حتى توقيع اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) في 2005 لكن التجربة لم تتوقف هناك إذ عاد لحمل السلاح مجددًا في عام 2010 ضمن فصائل المعارضة المسلحة عقب ما اعتُبر انقلابًا على ترتيبات نيفاشا وخلال سنوات المواجهة الطويلة في جبال النوبة والنيل الأزرق دفع أثمانًا باهظة ليس فقط على المستوى السياسي أو العسكري بل الإنساني والاجتماعي أيضًا إذ فقد الكثير من أهله وأبناء منطقته وكذلك مناصرين ورفقاء درب حين يتحدث مالك عقار اليوم عن المصالحة المجتمعية كطريق نحو استقرار السودان فهو لا ينطلق من موقف ضعف أو تهاون بل من إيمان نابع من التجربة ومعرفة حقيقية ببشاعة الحرب التي لم يقرأ عنها في الكتب بل عاش تفاصيلها وخسر فيها الأحباب والرفاق المصالحة التي يدعو إليها ليست دعوة لتجاوز الجرائم ولا غطاء للإفلات من العقاب بل يُفرّق بوضوح بين من ارتكب انتهاكات ويجب أن يُحاسب وبين من زُجّ به في أتون الحرب بالخداع أو الإكراه أو بفعل تعبئة مجتمعية مسيّسة فهؤلاء شباب سودانيون وجدوا أنفسهم يقاتلون في حرب لا يفهمون أسبابها ولا يدركون نتائجها الكارثية على البلاد ثمة خطورة متزايدة في الخطاب الإعلامي والسياسي الذي يميل إلى شيطنة جماعية لقبائل أو مكونات بعينها استنادًا إلى مواقف إداراتها الأهلية أو بعض أفرادها المنخرطين في النزاع المسلح حين تُوصم قبيلة بالكامل بأنها (دعم سريع) أو (خائنة للوطن) فإننا نفتح بابًا واسعًا للانتقام والثأر ونُعيد إنتاج نفس المآسي التي شهدناها في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق هذه العقلية لا تبني وطنًا بل تزرع ألغامًا في طريق الأجيال القادمة إن القبائل ليست كيانات سياسية أو عسكرية بل مكونات اجتماعية متجذرة في أرض هذا الوطن لها الحق في الحياة الكريمة والمواطنة المتساوية والمصالحة الحقيقية تبدأ من هذا الاعتراف تجارب دول خرجت من حروب أهلية مثل رواندا وجنوب إفريقيا أثبتت أن المصالحة القائمة على الحقيقة والمحاسبة وجبر الضرر قادرة على بناء مجتمعات أقوى وأكثر تماسكًا بدلًا من إعادة إنتاج الثارات والانقسامات الوضع في السودان اليوم لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي والدولي المتشابك فالسودان باعتباره الدولة الأكبر من حيث عدد السكان وحجم القوات المسلحة في منطقة الساحل يشكل حلقة وصل بين نزاعات غرب القارة وشرقها وإنزلاقه إلى حرب أهلية شاملة يفتح الباب أمام فوضى طويلة الأمد تمتد من شرق إفريقيا إلى غربها في ظل هذه الفوضى تلعب الانتماءات القبلية دورًا حاسمًا يفوق الانتماء الوطني ومع غياب تمثيل سياسي فعّال للعديد من القبائل العربية في دارفور وتشاد والنيجر نشأ شعور بالتهديد الوجودي استغله قادة مثل محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يقدم نفسه بوصفه (القائد) وممثل العرب المهمشين ما دفع آلاف المقاتلين من هذه المناطق للانخراط في صفوف قواته هذا التوسع لم يعد شأناً سودانيًا داخليًا فقط بل أصبح جزءًا من تنافس محموم بين قوى دولية منها الولايات المتحدة وروسيا، وبعض المحاور الإقليمية مثل الإمارات وكل طرف يسعى لتوظيف أطراف النزاع لتعزيز نفوذه وهو ما يزيد من تعقيد المشهد ويجعل من المرجّح إطالة أمد الحرب لا إنهاءها الحدود المفتوحة بين دول تعاني من الصراعات الداخلية مثل ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وتزامن ذلك مع صراعات في مالي ونيجيريا والنيجر وإثيوبيا والصومال وانتشار السلاح والجفاف والتصحر والتغيرات المناخية تجعل من المنطقة بأسرها عرضة لصراعات هي الأشد فتكًا في العصر الحديث في ظل هذا الواقع تبرز دعوة الفريق مالك عقار كمخرج عقلاني ووحيد يتطلب شجاعة وطنية لا تساوي بين القاتل والمقتول ولكنها تفرّق بين من تلطخت يداه بالدماء ومن كان ضحية لحرب الآخرين إن استقرار السودان لن يتحقق بمزيد من التصنيفات والاصطفافات بل بالخروج من منطق (الغالب والمغلوب) إلى منطق وطني جديد عنوانه (لا أحد يربح من الحرب… الجميع يخسر)
الصوت الذي يأتي من شخص مثل مالك عقار والذي جرب المحرقة بنفسه لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه إنه لا يتحدث من موقع سلطة بل من موقع من عرف أن الحروب لا تخلق وطنًا بل تدمره وأن المصالحة ليست ضعفًا بل قمة الشجاعة السياسية والإنسانية إن استمرار الحرب في السودان لن يؤدي إلا إلى مزيد من الدماء ومزيد من الانقسام وفتح الأبواب أمام تدخلات خارجية لا تهدف سوى لتحقيق مصالحها أما المصالحة فهي ليست ترفًا بل ضرورة وجودية ولنقلها بوضوح دعوة مالك عقار للمصالحة المجتمعية هي طوق النجاة في بحر من الفوضى علينا أن نتمسك به قبل أن يغرق الجميع