ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في بلدٍ ينهشه السلاح وتتمزق أطرافه كل يوم بجراح الطغيان والوحشية يخرج علينا مشهد جديد من مشاهد الرعب الممنهج لكن هذه المرة لم يكن في ساحة معركة بل على جسد فتاة سودانية رفضت الخضوع فدفعت حياتها ثمنًا لشرفها قسمة علي عمر، فتاة سودانية من قبيلة الفور ومن بنات مدينة زالنجي لم تُقتل لأنها ارتكبت جريمة بل لأنها قالت (لا) في وجه من لا يعرفون من الحياة سوى لغة القهر وسفك الدم وإهانة الكرامة قسمة لم تُقتل برصاصة ولم تُخفَ خلف الأسوار دون أثر بل قُتلت على مرأى ومسمع بعد أن عُلِّقت لساعات على جذع شجرة مقيّدة من يديها وقدميها تُعذَّب حتى لفظت أنفاسها الأخيرة من فعل بها ذلك؟ ليس مجرمًا عاديًا بل أحد عناصر مليشيا الدعم السريع يحمل رتبة تُرصّع كتفه بدبابير منحته إياها المليشيا دون أن يعرف طريق الكلية الحربية اسمه عبدالله محمد ويُعرف بـ(عبدالله صكّا) شاب في الرابعة والعشرين من عمره من قبيلة الرزيقات الماهرية ومن مواليد مدينة زالنجي ظل هذا المجرم يراود قسمة عن نفسها تارةً بالترغيب وأخرى بالترهيب أراد أن يشتري شرفها كما اعتاد أن يشتري صمت الناس لكنه واجه امرأة من فولاذ امرأة قالت (الموت أهون من الذل… الموت أهون من تسليم شرفي) كأنها تصرخ (أنا ابنة الدمنقاوية… شرفي من شرفها) وحين فشل في كسر كبريائها والنيل منها قرر قتلها لكن قبل أن يقتل الجسد حاول اغتيال الروح فلفّق لها تهمًا باطلة مدّعيًا أنها تمدّ الطيران بالإحداثيات وأنها تتعاون مع الجيش السوداني أو القوات المساندة كل ذلك فقط ليُبرر جريمة يعلم في أعماقه أنه لا يمكن تبريرها والأدهى من ذلك أن ما فعله لم يكن تصرفًا فرديًا معزولًا بل جريمة تمت بضوء أخضر من قادته في المليشيا الذين سمحوا وشجّعوا وربما أشرفوا على تنفيذها لم يكن الهدف انتزاع اعترافات خطيرة كما زعموا بل إذلال قسمة وكسرها بل إذلال أمة في شخصها لكنهم خسروا
لقد ماتت قسمة أعز وأشرف منهم جميعًا ماتت منتصرة رغم السلاح ورغم القهر وحين انتشر مقطع الفيديو الذي وثّقوا فيه جريمتهم واهتز له ضمير الناس لجأوا إلى التبرير والنكران وزعموا أن المقطع قديم لكنهم لم يكتفوا بتعذيبها حتى الموت بل صوّروا الجريمة البشعة ظهرت قسمة في مشهد تعجز الكلمات عن وصفه فتاة شابة مُعلّقة في الهواء مربوطة الأطراف جسدها النحيل يتأرجح بين الحياة والموت حتى أسلمت الروح بكل كبرياء يتشدّق قادة المليشيا بكلمات مثل (الحرية) و(العدالة) و(الديمقراطية) لكن الحقيقة أنهم لا يعرفون من الديمقراطية سوى أن يحكموا بجنازير البنادق فوق أجساد النساء وأن يزرعوا الرعب بدل الأمل والموت بدل الحياة أهذه هي الديمقراطية التي تأتي على أكتاف المليشيات وأجساد النساء؟ أهذه هي الدولة المدنية التي يبدأ بناؤها بتعليق الفتيات على جذوع الأشجار حتى الموت أهذه هي الحرية التي تُنتهك فيها أعراض النساء وتُغتصب فيها الكرامة ويُكافأ القتلة بالمناصب؟ قسمة علي عمر اليوم ليست مجرد اسم وليست ضحية عابرة إنها رمز للمقاومة وصرخة في وجه الصمت ودليل حيّ على أن الشرف لا يُشترى وأن الكرامة لا تُقايَض بالحياة قسمة قالت (لا) وقالت للعالم (إذا لم تكونوا إلى جانبنا فعلى الأقل لا تكونوا شهود زور على موتنا) نحن أمام جريمة موثقة بالصوت والصورة وفاعلها معروف بالاسم والانتماء والموقع ومع ذلك لا يزال طليقًا بل ربما يُكافأ أو يُرقّى ! أين المجتمع الدولي؟ أين المنظمات الحقوقية؟ أين أولئك الذين صدّعونا بشعارات (حماية المدنيين) و(عدم الإفلات من العقاب) ؟ قسمة علي عمر ماتت لكن قصتها يجب أن تعيش يجب أن تتحول إلى لعنة تطارد القتلة حتى يُحاكموا جميعًا أمام الله وأمام العدالة وأمام هذا الشعب وسنظل نكتب وننشر ونشهد حتى تأتي لحظة العدالة وحتى يدفع القتلة ثمن دمها وثمن كل دمٍ سفكوه