ضل الحراز : علي منصور حسب الله
في مشهد يلخّص مأساة الحكم بقوة السلاح أُغلِق مستشفى نيالا التخصصي أحد أكبر المؤسسات الطبية في جنوب دارفور بسبب مديونيات تراكمت على مليشيا الدعم السريع التي تسيطر على المدينة منذ أكثر من عامين المستشفى الذي كان ملاذاً للمرضى والجرحى من جميع الاتجاهات أغلق أبوابه في وجه المئات من المدنيين والنساء والأطفال فقط لأن السلطة الفعلية في المدينة عجزت عن سداد الفواتير المستحقة عليه قد يبدو الأمر صادمًا لكنه لم يكن مفاجئًا. فالمليشيا التي رفعت شعارات (الحكم المدني) و(العدالة الاجتماعية) ثبت عمليًا أنها عاجزة عن تسيير المرافق الحيوية وفاقدة لأي رؤية إدارية أو إنسانية إنها لا تدير المدن بل تسيطر عليها بالقوة وبين السيطرة والإدارة فارق جوهري يكشفه الواقع يومًا بعد آخر فالمديونية لم تكن لصالح شركة استثمارية أجنبية بل لمستشفى محلي ظلّ يقدم خدماته لعناصر المليشيا وجرحاهم ومع ذلك لم تُكلّف المليشيا نفسها سداد الفواتير ولم تحاول حتى التفاوض أو تقديم خطة دفع ما أدى إلى شلل تام في خدمات الرعاية الصحية والنتيجة كانت كارثية تفريغ المستشفيات من الجرحى ليس لشفائهم بل لإخفاء الأرقام الحقيقية للخسائر البشرية والهدف لم يكن علاج المرضى بل التعمية على الفشل العسكري والطبي والتقليل من الضغط الإعلامي وإخماد أي أصوات تشير إلى الإهمال الطبي داخل صفوفهم في مفارقة موجعة تكشفها شهادات من داخل القطاع الصحي بعض الجرحى يموتون في الطرقات لعدم وجود أسرّة أو يُرسَلون إلى مناطق بعيدة دون علاج بينما يُنقل قلة محظوظة غالباً من أقرباء قادة المليشيا إلى مستشفيات فاخرة في دولة الإمارات لتلقي العلاج في استعراض فجّ للتمييز الطبقي والانتهازية المليشيا لا تزال تُردّد شعارات (الإصلاح المؤسسي) و(بناء الدولة المدنية) لكن على الأرض تُمارس أبشع أنواع الانفلات الإداري والانتهاكات ضد المدنيين فإغلاق مستشفى بسبب فشل في السداد لا يعكس فقط انهيار المنظومة المالية بل انهيار أخلاقي تُقتل فيه القيم باسم الثورة وتُغتال فيه إنسانية المجتمعات تحت لافتات براقة إنَّ ما يحدث في نيالا ليس مجرد عثرة في طريق (حكومة ناشئة) بل فضيحة سياسية وأخلاقية تؤكد أن المليشيات لا تبني دولاً بل تُحوّل المدن إلى ثكنات والمؤسسات إلى هياكل خاوية والمواطنين إلى رهائن لمغامرات عسكرية لا تُنتج إلا الخراب ونيالا اليوم ليست مدينة حرة المواطن فيها لا يملك حق التداوي ولا حتى حق المغادرة فالخروج من المدينة ممنوع في كثير من الحالات والنزوح يعتبر (جريمة) في عيون المليشيا السكان باتوا محاصرين مقيدين بسلطة أمر واقع لا تقدم لهم خدمات ولا تتيح لهم بدائل بل تدفعهم أموال طائلة بدعوي حمايتهم لكن من من هذه الحماية فمن يمنع الناس من الخروج لا يمكن أن يدّعي أنه ضامن للحريات ومن يُغلق المستشفيات بدلاً من بنائها لا يحق له الحديث عن (عدالة اجتماعية) ومن يقمع الإعلام ويمنع تداول المعلومات لا علاقة له بحكم مدني لكن السؤال الكبير الذي لا بد أن يُطرح اليوم هو أين الإدارة الأهلية مما يجري؟ لقد كانت الإدارة الأهلية عبر التاريخ تمثل صمام أمان للمجتمعات وصوتها في وجه الطغيان لكنها اليوم ويا للأسف تقف في الصفوف الأمامية لمناصرة المليشيا التي تفتك بهذه المجتمعات فهي التي استنفرت الشباب للقتال مع مليشيا لا تحمل مشروع دولة بل مشروع فوضى وهي التي صمتت أمام إغلاق المستشفيات وتردّي الخدمات وانعدام الأمن واختفاء الأصوات الحرة اليوم تبدو هذه الإدارات كما لو كانت تعمل ضد مجتمعاتها لا من أجلها هذه الإدارة التي كان يفترض أن تدافع عن مصالح الأهالي وتطالب بالمستشفيات والماء والغذاء أصبحت تسوّق لمن صادر هذه الحقوق لقد تواطأت إما بالصمت أو بالتأييد على معاناة الناس وهذا خذلان تاريخي لا يُغتفر
والمثقفون؟ هل هم أيضاً ضحية أم شركاء؟ اللوم كذلك يقع على المثقفين والمتعلمين من أبناء الإقليم الذين ينظرون بأعينهم إلى ما يجري لكنهم يختارون الوقوف في صف المليشيا إما بدافع المال والامتيازات الشخصية أو أملاً في مكاسب سياسية وسلطوية أو بدافع الانتماءات القبلية الضيقة كيف لمن يعرف أن مدينته تُدمّر ومستشفياتها تُغلق وأهلها يُجبرون على البقاء في الجحيم أن يظلّ مؤيداً لمن يصنع هذه الكارثة؟ بل الأدهى أن البعض صار يبرر ويدافع ويمهّد للمزيد من التمكين لهذه المليشيا رغم أنه يعلم تماماً أنها لا تحمل أي مشروع صالح
إن سلطة بلا شرعية ولا كفاءة ولا مؤسسات لا خير يُرتجى منها فمن يؤيدها طمعاً في مناصب أو اعتراف قبلي أو دعم مادي يشارك في الجريمة ويساهم في دفع المنطقة نحو مزيد من الدمار والانهيار فإغلاق مستشفى نيالا التخصصي ليس مجرد حادث إداري بل جريمة أخلاقية وسياسية إنه ناقوس خطر لكل من لا يزال يظن أن المليشيا قادرة على إدارة مناطق أو بناء حكم لذلك المعركة اليوم لم تعد على خطوط النار فقط بل أصبحت معركة كرامة وحق في الحياة والخدمة الأساسية والناس لا تطلب سوى أبسط مقومات الحياة مستشفى مفتوح ودواء وحرية في التنقل وعدالة في توزيع الموارد لكن يبدو أن كل هذه المطالب أثقل من أن تحتملها عقلية المليشيا التي ترى في المدن ساحات للنهب وفي البشر أدوات للاستغلال وفي المؤسسات عبئًا إداريًا لا جدوى منه فلا مستقبل لبلادٍ تسيطر عليها المليشيات ولا كرامة لمواطنٍ في ظل حكم السلاح ولا إصلاح يُرجى من مشروع يقوم على القمع والاستنزاف والكذب السياسي