ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في مشهد عبثي متكرِّر لا تزال فئة من النخب السودانية تمارس هواية اصطيادَ السمكِ في الماءِ العكِر اتهام الأبرياء بالتقصير أو التواطؤ بدلَ توجيه بوصلة الغضب صوب الجاني الحقيقي بينما تمرّ البلاد بأشدِّ مراحلها ظلمةً والدماء تُراق والمدن تُدك والمؤسسات تتهاوى يصرُّ البعض على تحويل معركتهم من مجابهة المُجرم إلى مطاردة من يحاول إنقاذ ما تبقّى من الدولة
الهجوم الأخير على الأستاذ خالد إسماعيل أحمد علي الأعيسر وزير الثقافة والإعلام والسياحة يمثّل نموذجًا صارخًا لهذا السلوك الإعلامي المعيب فبدلًا من توجيه الغضب الشعبي نحو الميليشيات المجرِمة التي تقتل وتغتصب وتحرق وتنهب وتجتاح المدن والقرى بلا رحمة وبدلًا من ملاحقة شبكات تمويل الحرب ومراكز القرار الإقليمية المتورطة في تفكيك السودان نجد بعض الأصوات تُصَبُّ جام غضبها على رجلٍ يعمل على إعادة مؤسسات الدولة الإعلامية إلى العمل في وقتٍ تزداد فيه الحاجة إلى الحقيقة
فمن يعرف سيرة الأستاذ خالد الأعيسر يعلم أنه ابنُ غرب السودان تلك البقعة التي طالما عانت من التهميش البنيوي والإعلامي والسياسي لم يأتِ إلى منصبه على ظهر دبّابة ولم يكدس ثرواتٍ من خزائن الدولة ولم يكن يومًا عضوًا في ماكينات فساد اعتادت استغلال السلطة للإثراء أو الولاءات لقد تسلّم المسؤولية في ظرفٍ استثنائي ورث مؤسساتٍ منهكةً تعمل وسط حرب شاملة وانهيار إداري وهجومٍ مزدوجٍ من الداخل والخارج ومع ذلك شرع في مشروع لترميم المؤسسات الإعلامية مثل تلفزيون السودان وإذاعة أم درمان ووكالة السودان للأنباء (سونا) مؤسساتٌ لا تمثلُ رمزيةً فحسب بل هي ذاكرة السودان الجمعية وسجله الثقافي والتاريخي وصوته الوطني داخل البلاد وخارجها ولأن الرجل لا يساوم على مبادئه لُقّبَ لدى البعض بـ(السوخوي) في مفارقةٍ لا تخلو من سخرية أن يُتّهم خالد الأعيسر بـ(العنصرية) وهو الذي نشأ في قلب مدينة بارا التي أفرزت علماءً ومبدعين وفنانين وشعراء أمرٌ بعيد عن الحقيقة لقد كرّس جزءًا كبيرًا من عمله الإعلامي والثقافي لمخاطبة قضايا غرب السودان والدفاع عن حقوقه هذه الاتهامات الرخيصة ليست سوى محاولة لتشويه الصورة وتزييف النقاش وهي أيضاً مرآة للمأزق الأخلاقي والسياسي الذي يعيشه مَن يطلقونها فعندما تعجز عن مجابهة الحجج تتجه إلى الشيطنة وحين لا يكون لديك مشروع بديل تبدأ في تحطيم الرموز الوطنية لعلّك تجد موطئَ قدمٍ في الفراغ الذي صنعتَه بنفسك
المؤسسات الإعلامية التي يُشرف عليها الأعيسر اليوم تعتبر النافذة القليلة التي تحاول قول الحقيقة ومن أجل أداء رسالتها قدّمت شهداءً وعددًا من المخطوفين بواسطة مليشيا الدعم السريع ومع ذلك لا تزال تتعرّض لهجماتٍ من بعض الأطراف مقصودًا أو غير مدرك كأن المطلوب تفكيكُ آخر ما تبقّى من مؤسسات الدولة وهذه ليست صدفة ففي معارك الوعي مَن يتحكّم في السرديّة يملك قوة التأثير ومَن يملك الكاميرا قد يهزم الرصاصة لذلك فإن تحطيم الإعلام الوطني وإغراقه في صراعات هامشية يخدم قوى الخراب والمليشيات ويشتّت انتباه الناس عن العدو الحقيقي ولعلّ المثل الشعبي القديم يوجز الأمر بدقة (الفيل أمامهم… ويطعنون في ضله) والواقع أن المليشيا التي تقتل وتغتصب والدول التي تمول وتُشعل والشبكات التي تُهرّب الذهب وتشتري الذمم… كل هؤلاء خارج دائرة المساءلة بينما يُرمى وزيرٌ لا يملك إلا الكلمة باتهاماتٍ بلا سند وكأنّه هو من فجّر الحرب ودمر الخرطوم وتسبب في النزوح والمجاعة إذا كانت هناك رغبة حقيقية في محاسبة المسؤولين عن مقتل الأبرياء فلنبدأ بالذين يملكون السلاح لا بمن يملك الكلمة لنحاسب من قتل لا من حاول تجريم القتلى لنحاصر من دمّر لا من حاول البناء في زمن الدمار ولنقف مع مَن يمثل الوجه المدني للدولة ضد مَن يمثل وجهها الميليشياوي والهمجي إن الوقوف مع خالد الأعيسر لا يعني منحه تأييدًا مطلقًا أو شيكًا على بياض بل يعني الاعتراف بعدالة المعركة وفهم مَن هو الجلاد ومَن هو الضحية هذا موقف أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا ووطني قبل أن يكون مهنيًا
ندركُ أن الجرائم البشعة المرتكبة في حق المدنيين يمكن أن تضع البعض في حالة نفسية صعبة ولذلك نعذرهم لكننا لا نغضُّ الطرف عن أياديٍ تستفيد من تأجيج الصراع وتعمل على شقِّ الصفّ نصرةً للمليشيا أو لأغراضٍ سياسية شخصية نحن اليوم أمام اختبارٍ للضمير الجمعي إما أن نختار الاصطفاف مع مَن يحاول إنقاذ الدولة من الانهيار أو نستمرّ في جلد الذات وتحطيم المؤسسات واستهداف الكفاءات حتى لا يبقى شيءٌ يُختلف عليه فلنَمتنع عن تركِ الفيل ثمَّ نطعنَ في ضله