كتب: أ.د. الصادق محمد آدم
مبدأ العودة إلى الجذور والاحتفاء بالتراث والحنين إليه
تخلل الخطاب كما أشرنا في المقال السابق مفردات رمزية تشير إلى فلسفة مالك عقار التي استقاها من الفلسفة العامة للثوار الأفارقة في نضالهم ضد الاستعمار بشقيه القديم والحديث.
ومن المبادئ التي نادى بها هؤلاء الثوار ضرورة العودة إلى الجذور وإلى البساطة الإفريقية والمحافظة على التراث والاحتفاء به وبالحضارة الإفريقية التي طُمست عن قصد، والحنين إليها، والافتخار بها واعتبارها ملمحاً مميزاً للأنسان الإفريقي ، والاعتزاز بثقافة وتراث ذلكم الانسان المسكين الطيب.
يقول القائد الثائر مالك عقار من بين حنايا خطابه راجعاً بذاكرته مستدعياً جغرافية المكان: ” أهل النيل الأزرق … في خور تمت، رماس ورمالها التي تحير البصر، وجارتها خور الجداد، وأختهم من أبيهم خور يابوس، أو في الجبال : فاءات فازغلي، فامدودو، فاقشنق، فازنقر، فاكيلو، والباءاءت : بل غنشو، بل مايو، بلنق، بل لارو …”
هذا الاستدعاء الجغرافي لم يأت من فراغ بل هو عبارة عن استرجاع لذكريات مضت مرت عبر الذاكرة لم يستطع هذا الثائر – نائب الرئيس – نسيانها، خاصة عندما وطأت أقدامه جامعة النيل الأزرق التي كانت رافداً تعليمياً ساهم في بنائه الفكري والتي ألهمته ورجعت به أعواماً إلى الوراء فاسترجع ذكريات هذا المكان وذكريات أخرى أرتبطت به وبشخصيته الحنون. ويأتي التساؤل عن سر المناداة بالعودة إلى الجذور في أدبيات حركة الآفريكانزم Africanism ومبادئها التي لم يستطع مالك عقار الثوري الفكاك منها، ولماذا دائماً قواد هذه الحركة وثوارها يحتفون بالجذور الثقافية وبالتراث ويحنون إلى ذلك.
والإجابة عن هذا السؤال تجعلنا نغوص في أعماق التاريخ الاستعماري لمعرفة سر هذه العودة وسر الاهتمام بذلكم التراث.
هدفت الإستراتيجية الاستعمارية إلى محو قيم الإنسان الإفريقي وثقافته، بالرضا والإقناع تارة أو بالقوة تارة أخرى. وذلك بتذويب الثقافات الإفريقية في إطار ثقافة الجماعة الاستعمارية المسيطرة؛ بحجة الاستعلاء الغربي قيمياً وثقافياً. وما يزال في الغرب حتى الآن من يختمر في ذهنه أن التاريخ لم يتخذ له سبيلاً بين الشعوب الإفريقية. ولما كانت نفس الإنسان هي هويته، وهويته هي حصيلة ماضيه القريب والبعيد المتمثل في التراث والتاريخ، ارتأى الاستعمار طمس هذا التاريخ ورفضه تحت شعار ” الشعوب السوداء لا مكان لها في التاريخ”. قال أحدهم :” على الإفريقيين أن يتحلوا بالصبر، ويعترفوا بدونيتهم .. “كل أحداث العالم مرت على منأى من الإفريقيين” .. “إفريقيا ليس لها فصل في دفتر تاريخ هذا الكون، كل التطورات التي ظهرت فيها مستوردة إليها من الخارج “.
هذه العبارات الجارحة فعلت فعل السحر في نفسية الإنسان الإفريقي المعتز بماضيه وأدت إلى أن تطفو على السطح مشكلات جديدة ساعدت في تعميق الجرح الإفريقي وزادت من التطرف بين الأفارقة تجاه ماضيهم والتمسك به حيث أيقظت في نفوسهم عزتهم وكرامتهم . فقد خطط الاستعمار لربط مستعمراته بثقافته ممارساً «مبدأ التبعية الفكرية» التي يسميها عالم الاجتماع ابن خلدون – رحمه الله – «نِحْلَة الغالب». وكان أول ما لجأ إليه الاستعمار عند احتلال الدول الإفريقية هو طمس معالم ثقافاتهم المحلية، فكان لا بدّ من رد فعل مماثل ومناسب وبالعيار نفسه، أي: إعلان حرب ثقافية للدفاع عن الهوية .
وإنّ أخطر ما واجه الإنسان في إفريقيا من جراء السياسات الاستعمارية هو طمس اللغة والهوية،. طمس اللغة باعتبارها أهم وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية، فهي المكون الأساسي للثقافة والتراث، لذا أعلن الاستعمار حربًا صريحة ضد اللغات الإفريقية، لأنّ الولاء اللغوي يعد شأنا من شؤون الإيمان، كما قالت الكنيسة “و من يفقد لغته يفقد إيمانه”.
وقد أشارت الدراسات المتعددة إلى أثر اللغة في تقوية الإحساس بالهوية القومية والولاء، لذلك كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين تعمل جاهدة على قتلها لنشر لغاتها وبث ثقافاتها، لطمس الذاتية الإفريقية.
ولعل من أبرز مظاهر السعي إلى إعادة الصبغة الإفريقية من الناحية الثقافية هو البحث في التواريخ القومية، وإعادة كتابة التاريخ الإفريقي بأيدي الإفريقيين أنفسهم، تعبيراً عن تقدير الباحثين الإفريقيين لحضارتهم، وبذلك يمكن الكشف عن الوجه الحقيقي لإفريقيا.
فمنذ القرن السادس عشر بذل المغامرون الغربيون جهداً واعياً لتقويض الميراث الثقافي لشعوب العالم المختلفة من بينها الشعب الإفريقي، وقد صاحب ذلك فرض للممارسات الدينية والثقافية الغربية على أولئك الذين يعتمدون طريقة حياة مختلفة. وعلى الرغم من ذلك، بُرر في البداية على أنّه نشر للحضارة، ثم في ما بعد نشر للتحديث، فإنّ هذه العملية، كانت على الصعيد الفعلي، تغريباً شاملاً لم يترك مجالاً كبيرا للحلول الوسطى. وقد ساد اعتقاد مفاده أنّ تنمية الشعوب التي خضعت للاستعمار يجب أن تنطوي على تخلي هذه الشعوب عن تاريخها، ورفض ميراثها الثقافي وتبني الممارسات الثقافية الغربية.
وحتى الأدب الإفريقي لم يسلم من إفتراءتهم فهم يرفضون عراقة الأدب الإفريقي ويعتبرونه حديثاً لا يتعدى القرن التاسع عشر الميلادي، ويذهبون إلى أنّه طرأ على القارة مع مجيء الاستعمار الذي حمل معه آليات الكتابة والتدوين، ولا شك أنّ هؤلاء يصنفون بأنّهم جاهلون أو متجاهلون حقيقة التراث الإفريقي، وهو محاولة منهم لطمس محامد هذا الأدب وتراث شعوبه، وعدم اعتراف بعراقته وأصالته. فالزعم أنّ الأفارقة وجدوا في الفرانكفونية حاجتهم التعبيرية عن الذات لتأكيد خصوصيتهم الثقافية يعتبر زورا وبهتانا غير مقبول.
ويدخل في هذا السياق محاولة الاستعمار الفرنسي إحداث قطيعة بين بلاد المغرب العربي وشمال إفريقيا، وبين باقي المجتمعات المسلمة في إفريقيا من خلال محو المكون العربي والإسلامي من الهوية الإفريقية، وإظهار الإسلام الإفريقي مختلفاً تماماً عن الإسلام العربي . كما لا يخفى أنّ الجهود الاستعمارية الرامية إلى طمس الهوية والثقافة الإسلامية لصالح فرض القيم الغربية أدى إلى خلق حالة من القنوط عند الإنسان الإفريقي وبذا عمق المستعمر الفجوة بين الأفارقة.
ونخلص مما سبق أنه نتيجة للهيمنة الأوربية على إفريقيا في المجال اللغوي فقد تمخض الأمر عن الآتي :
أ- فرض الأوربيون لغتهم على الإفريقيين.
ب- النظرة المعادية التي أبداها الأوربيون تجاه اللغة العربية، والحرف العربي.
ت- تهميش اللغات الإفريقية وطمس شخصيتها لتذوب في اللغات الأوربية متى ما كان ذلك ممكناً، وتشجيعها في أحيان أخرى لمقاومة اللغة العربية. أي خلق صراع لغوي بين الأفارقة أنفسهم، أي ممارسة سياسة فرق تسد حتى بين اللغات.
ث- تشجيع كتابة اللغات الإفريقية بالحرف اللاتيني.
ولم تكتف الإمبريالية بطمس اللغة والثقافة بل ذهبت أكثر من ذلك فحاولت طمس الفن الإفريقي ووسمته بأنه صورة من صور البدائية، قال أحد الأفارقة: وعلى الرغم من اعتراف الأوربيين في آخر الأمر للزنجي ببعض المواهب الفنية، إلاّ أنّ نظرتهم تظل ترمق الإفريقي بأنّه مخلوق أقل قدرة، وقد عبّر أحدهم عن ذلك فقال : ” إنّ الفن في دماء الزنجي ولكنه في نفس الوقت لا يعتبر الفن إلا مظهراً من مظاهر البشرية غير الناضجة “.
فبالعودة إلى خطاب القائد مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة – في خطابه التاريخي بجامعة النيل الأزرق نجده يتحسر على ثقافة المنطقة التي مُحيت عن الوجود فيقول: ” غيرت المدنية كل شيء، أبو رماد والنزل صار الدمازين، جبل رسيس المجرى المائي والشلال الطبيعي الجميل، صار الآن الجسم الخرساني لخزان الروصيرص، شُيّد لاستنطاق صنم آخر يسمى مشروع كنانة والرهد، واختفى على أثرها مملكة فامكا التي كانت تجلس بجانب الأزرق، أخذت طريقها إلى البحيرة بهدوء دون رجعة، والأموات لا يعودون، حزنت على طريقة التعامل مع موروثاتنا التاريخية وتوثيقها “.
عبارات لا شك مليئة بالحسرة على الماضي التليد التي طُمست معالمه وذهب إلى الأبد فالأموات لا يعودون.
هذه السمة المتأصلة في أذهان الثوار الأفارقة لم تأت من فراغ كما قلنا فلكل إنسان تاريخ وثقافة وهوية فإذا طمست هذه الأشياء أصبح بلا تاريخ وبلا هوية وبلا ماضٍ، إذن لا بد للإنسان الإفريقي من العودة والرجوع إلى الماضي وإلى التاريخ والاحتفاء به لاسترداد كرامته وعزته التي يرى أنه محيت عن قصد.
وفي الختام نختتم هذا المقال بكلمات من القائد عقار نفسه ونترك للقارئ مهمة استعياب وفهم هذه العبارة التي عبرت عن ماض تليد ضاع بين جلبة الحضارة ، فيقول: ” في هذا المكان – يقصد جامعة النيل الأزرق- الذي لي فيه ذكريات ومناسبات في أزمنة تاريخية ، وللأمكنة وما عليها تاريخ طبيعي وسياسي وجينات وراثية ضاعت، فقدت، ودفنت دون صلاة جنائزية، لا تعود “.
وحسبك بهذه العبارة من الحسرة المستكنة في النفس بسبب ضياع التراث وتلاشيه.
ولنا عودة في تحليل هذا الخطاب التاريخي في مقالات أخرى بإذن الله.