ضل الحراز: علي منصور حسب الله
في الوقت الذي ترفع فيه دولة الإمارات شعار (دعم التحوّل الديمقراطي المدني في السودان) وتقدّم نفسها في المحافل الدولية كداعمٍ لـ(المدنيين) و(الاستقرار) يتكشّف واقع مغاير تمامًا واقعٌ تكذّبه الأرقام وتفضحه الممارسات السياسية والأمنية في الداخل والخارج فالديمقراطية ليست شعاراتٍ تُقال في المؤتمرات ولا بياناتٍ تُوزَّع على الصحف بل هي حق الشعوب في اختيار من يحكمها وحرية التعبير عن الرأي ومساءلة السلطة وكرامة الإنسان أمام الدولة هذه المعايير التي تتغنّى بها الإمارات في خطابها الخارجي تسقطها بالكامل داخل حدودها حتى غدت نموذجًا متكاملًا للحكم القبلي الأمني الذي يكمّم الأفواه ويعتقل الضمائر وبحسب مؤشر الديمقراطية العالمي لعام 2018 الصادر عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجلة الإيكونوميست جاءت الإمارات في المرتبة (147) من أصل (167) دولة ضمن قائمة الأنظمة الاستبدادية وقد حصلت الدولة على صفر من عشرة في معيار العملية الانتخابية والتعددية وهو ما يعني أن حق الانتخاب والترشّح منعدم تمامًا وفي معيار أداء الحكومة نالت (3.57) من عشرة وفي المشاركة السياسية (2.2) من عشرة وفي الحريات المدنية (2.65) من عشرة فقط هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءاتٍ جامدة بل مرآة تعكس واقعًا خانقًا دولة بلا انتخابات حقيقية بلا مؤسسات رقابية مستقلة وبلا صوتٍ حرّ ومع ذلك تطلّ أبوظبي في كل عام في اليوم العالمي للديمقراطية لتحتفي بـ(نموذجها الديمقراطي) وكأنها تسخر من وعي العالم وتستهزئ بالعقل الجمعي للبشرية ويروّج النظام الإماراتي لفكرة (المشاركة الشعبية) عبر المجلس الوطني الاتحادي لكنه في الحقيقة هيئة استشارية منزوعـة الصلاحيات لا تملك سلطة التشريع أو محاسبة الحكومة أما ما يسمى (الانتخابات) فلا يشارك فيها سوى أقل من نصف بالمئة من المواطنين عبر قوائم أمنية معدّة مسبقًا يُختار المرشّح والمصوّت بعناية لتجنّب أي صوتٍ نشاز يغرد خارج السرب الرسمي وفي المقابل تُحرم الغالبية العظمى من الإماراتيين من حق المشاركة السياسية والإعلامية والمدنية وتُفرض قيودٌ مشدّدة على الرأي والتعبير حتى بات الصمت هو اللغة الرسمية الوحيدة المسموح بها أما أولئك الذين تجرّأوا على الكلام مثل الناشط الحقوقي أحمد منصور فقد دفعوا حريتهم ثمنًا لكلمة
فمنذ سنوات يقبع منصور في الحبس الانفرادي لمجرد مطالبته بالإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية فيما تعيش أسرته وجمهور المدافعين عن حقوق الإنسان تحت تهديدٍ دائم بالملاحقة والابتزاز الأمني ومن مفارقات هذه الدويلة قضية الـ94 إماراتيًا إذ كانت نقطة تحوّل مفصلية كشفت للعالم وجه النظام الحقيقي
فقد أدين 69 منهم بعد محاكماتٍ وُصفت بأنها استعراضية ومغلقة حُرم فيها الإعلام والمراقبون الحقوقيون من الحضور وكانت جريمتهم الوحيدة أنهم طالبوا بإصلاحٍ دستوري يسمح بانتخاباتٍ حقيقية ومجلسٍ وطنيٍ منتخب يتمتع بصلاحياتٍ رقابية كاملة ويمنح جميع المواطنين حق الاقتراع دون استثناءات أو قوائم أمنية فلم يكن هؤلاء دعاة عنف أو انقلاب بل كانوا مؤمنين بما ورد في الدستور الإماراتي نفسه من مواد تنص على الشورى والمشاركة
لكن النظام رأى في أحلامهم خطرًا وفي أقلامهم تهديدًا فحوّلهم إلى (أعداء للدولة)
ومنذ ذلك اليوم دخلت الإمارات مرحلة تكميم شامل لكل رأي حرّ ووأدت في مهدها أي محاولةٍ جادةٍ للإصلاح السياسي فالإمارات استبقت الخطى منذ اللحظات الأولى لزيادة سطوتها الأمنية على أصحاب الرأي ونشطاء السياسة وضربت بيدٍ من حديد كل من نادى بالإصلاح أو عبّر عن رأيٍ مخالف أو تضامن مع غيره من المعتقلين دون وجه حق فتنوعت الوسائل الأمنية الإماراتية في إسكات الرأي العام وتضييق الحريات على الشارع الإماراتي بين الاعتقالات المباشرة والإخفاءات القسرية وسحب الجنسيات وفرض قوانين قمعية كقانون الجرائم الإلكترونية والتقاضي أمام المحكمة الاتحادية غير القابلة للاستئناف وتجميد الأرصدة والمضايقة على أهالي المعتقلين والمنع من السفر وملاحقة المقيمين الأجانب وتحويل القضاء إلى أداةٍ أمنية وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب ومصادرة حق المعتقل في الدفاع والمرافعة القانونية كما عملت الإمارات جاهدة لتضييق الخناق على مؤسسات حقوق الإنسان العالمية والعربية ففي عام 2014 منعت ممثلي منظمة هيومن رايتس ووتش من دخول البلاد إثر نشر تقريرٍ عن انتهاكاتها كما حاولت الحيلولة دون عقد الندوة التي نظمها المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في جنيف لمناقشة تدهور أوضاع الحقوق في الإمارات
وقد صدرت في السنوات الأخيرة تقارير حقوقية عديدة لمنظمات عالمية وعربية تؤكد التراجع المأساوي للحريات العامة ووصفت الإمارات بأنها دولة بوليسية تستخدم المحاكمات السياسية لتصفية المعارضين وعند الحديث عن انتهاك الحريات في ظل الحكم المطلق لا يمكن تجاهل البنية القانونية للنظام الإماراتي الذي يستند إلى قوانين تُستخدم لتبرير الانتهاكات وتكميم الأفواه فقانون العقوبات الإماراتي يتضمن موادّ تتعارض بوضوح مع مواثيق حقوق الإنسان الدولية وتُستخدم لتجريم النشاط السياسي والمدني السلمي وبذلك يصبح النص القانوني سلاحًا فضفاضًا بيد الدولة الأمنية لقمع الآراء المخالفة وتكميم أي صوت يدعو إلى الإصلاح
ورغم الدعوات المتكررة من المنظمات الحقوقية الدولية وقرار الاتحاد الأوروبي الصادر في 26 أكتوبر 2012 بضرورة تعديل قانون العقوبات بما ينسجم مع المعايير الدولية لحرية التعبير فإن الإمارات لم تُبدِ أي نية للإصلاح بل مضت في طريقها نحو المزيد من التضييق وإحكام القبضة الأمنية والمفارقة المضحكة المبكية أن النظام الإماراتي الذي يمنع المواطن من فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان يتحدث اليوم عن (التحول الديمقراطي) في السودان، وعن (دعم المدنيين السودانيين) !لكن من هم هؤلاء (المدنيون) الذين تتحدث عنهم أبوظبي؟ إنهم في الواقع مجموعة من الشخصيات المرفوضة شعبياً لا وزن لها في الشارع السوداني ارتبطت أسماؤهم بالتواطؤ مع ميليشيا الدعم السريع التي أحرقت القرى واغتصبت النساء وقتلت الفتيات بتعليقهن على جذوع الأشجار في الفاشر وبارا والطينة وغيرها من مدن دارفور وكردفان فكيف يمكن لدولةٍ تموّل بالسلاح والمال ميليشيا متهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أن تتحدث عن دعم التحول المدني؟
أيّ مفارقةٍ هذه التي تجعل من القامع في بلده مخلّصًا في بلاد الآخرين تبدو الإمارات وكأنها تجهل تاريخ السودان البلد الذي لقّن الأنظمة الديكتاتورية دروسًا في المقاومة والوعي السياسي فمنذ ثورة المهدي ضد الحكم التركي المصري مرورًا بثورة أكتوبر 1964 ضد نظام الرئيس ابراهيم عبود وثورة أبريل 1985التي خلعت حكومة جعفر نميري وصولًا إلى ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بالبشير كان الشعب السوداني دائمًا في طليعة الأمم التي تثور ضد الاستبداد وتطالب بالحرية والعدالة والمساواة فالسودان لا يحتاج من يُعلّمه الديمقراطية لأنه معلم الشعوب في ذلك بل يحتاج من يتوقف عن تمويل الحرب عليه
إن من يريد للسودان مدنية حقيقية لا يرسل إليه الطائرات المحمّلة بالسلاح ولا يفتح خطوط تهريب تمر عبر تشاد وأفريقيا الوسطى لتغذية الميليشيات بالمال والنفوذ وتحوّل المال الإماراتي والخليجي إلى أداة لتجميل الاستبداد وشراء الصمت الدولي
لقد بات واضحًا أن بعض العواصم الغربية تغضّ الطرف عن الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان في الإمارات واليمن وليبيا والسودان مقابل صفقات السلاح واستثمارات النفط والغاز لكن الحقيقة التي لا تُشترى هي أن الدم لا يُغسل بالنفط وأن التاريخ لا ينسى من موّل ومن صمت ومن زيّن الجرائم بألفاظ (الاستقرار) و(العمل الإنساني) فمن السذاجة أن نصدق أن دولةً تحتل المرتبة (147) في مؤشر الديمقراطية وتلاحق الكلمة الحرة وتسجن أصحاب الرأي يمكن أن تكون راعيةً لتحولٍ ديمقراطيٍ في السودان
إنها دولةٌ تُجيد تسويق الوهم وتزييف الخطاب لكنها عاجزة عن ممارسة ما تروّج له فالذي يقمع شعبه لا يمكن أن يحرّر شعبًا آخر والذي يسجن الكلمة في بلاده لا يمكن أن يكون راعيًا للحوار في بلاد غيره لقد آن للأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن يدركا أن ما تفعله الإمارات في السودان ليس دعمًا للمدنيين بل اختراقٌ للسيادة الوطنية وتغذيةٌ للصراع الأهلي بلباسٍ إنساني زائف والسودان لا يحتاج إلى وصاية ولا إلى مالٍ ملوّث بالدم
بل إلى عدالةٍ حقيقية تُحاسب القتلة ومن موّلهم ومن صمت عنهم
فالتاريخ لا يرحم والضمير الإنساني مهما تأخر لا يُشترى
آخر الضل
#الدعم السريع منظمة إرهابية
#الامارات دولة راعية للإرهاب

