صدى الواقع: محمد مصطفى الزاكي
قال الفيلسوف الفرنسي فولتير يومًا: “الثورة التي تبدأ بالعنف لا تنتهي إلا به.”
ولعل هذا الوصف ينطبق حرفيًا على ما سمّي بـ”ثورة آل دقلو” التي اندلعت على أسنّة الرماح وانتهت بين أنقاض الفاشر، بعد أن استنفدت آخر ذرة من شعاراتها المضللة، وسقط قناعها أمام العالم.
في أبريل المشؤوم، أشعلت مليشيا الدعم السريع حربها ضد السودان، بتمويل سخيّ من دول لا ترى في بلاد النيل سوى منجم ذهب وساحل طويل وباطن أرض يفيض بالخيرات. وجرى الاتفاق غير المعلن — كما تؤكد شواهد الميدان — بين قائد المليشيا محمد حمدان دقلو (حميدتي) وتلك الدول على أن يفتح لها الطريق نحو موارد السودان مقابل أن تفتح له بوابة القصر بالقوة.
ولأن كل حرب تحتاج غطاءً أخلاقيًا، رُوِّج للصراع بأنه ثورة ضد الظلم والتهميش وغياب الديمقراطية. لكن ما لبثت الحقيقة أن انكشفت حين سالت الدماء على التراب، وتحوّلت شعارات الحرية إلى شعارات نهب واغتصاب ودمار. ارتكبت المليشيا جرائم يندى لها جبين الإنسانية: مجازر جماعية، واغتيالات، واغتصابات، واتجار بالبشر، وتجنيد للأطفال، وتحويل المستشفيات إلى ثكنات. جرائم فاقت، في بشاعتها، ما سجّلته السجلات الدولية عن دارفور 2003.
لم يعد ممكناً بعد اليوم تجميل الجريمة بطلاء الثورة، ولا تسمية الجنجويد بـ”قوات حامية للديمقراطية”. رائحة الحرب تجاوزت حدود السودان حتى وصلت إلى قاعة الأمم المتحدة، حيث فاحت — كما يقول المراقبون — من تحت بنطال مندوب إحدى الدول التي دعمت المليشيا، الإمارات تحديدًا. اضطر بعض الحاضرين لسدّ أنوفهم بمناشف الجيب، لا مجازًا بل حقيقة، من شدّة نتانة الرائحة السياسية التي ملأت المكان.
لكن التاريخ، كما العدل، لا ينام.
جاءت الفاشر، المدينة الصامدة، لتكون الصفحة الأخيرة في رواية آل دقلو. هناك حيث انهار المشروع المسلح بكل ضجيجه، وقاد الجيش السوداني خصمه نحو مصيره المحتوم، دون صراخ ولا شعارات، بل بخبرة العارف أن المعارك الحقيقية تُكسب بالعقل لا بالمرتزقة.
وفيما كانت الحاضنة السياسية للمليشيا (تأسيس + صمود) تبيع أوراق ثورة ديسمبر في سوق القمار الدولي، وتزايد باسم الحياد والطهارة، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو كالصاعقة فوق رؤوسهم. قال الرجل بلا مواربة:
“إن الجنجويد لا يخوضون حربًا، بل يرتكبون انتهاكات مروعة ضد الأطفال والنساء والمدنيين.”
بهذا التصريح، سقطت آخر ورقة توت كانت تغطي جسد المشروع الدقلوي، وانكشف المستور أمام الرأي العام المحلي والدولي. فشل المال الإماراتي في شراء الحقيقة، كما فشل خطاب “الثورة الزائفة” في تبرير المقابر الجماعية والدموع المنهالة من عيون الأبرياء.
في النهاية، لم تَكسب المليشيا السلطة، ولم تَحظَ الدول الداعمة بالموارد، بل خسر الجميع، كما قال فولتير، حين تبدأ الثورة بالعنف، تنتهي بالدم.
وهكذا، شيّعت الفاشر مشروع آل دقلو إلى مثواه الأخير .. لا بالزغاريد ولا بالمدافع، بل بصمت الجبال وهي تشهد سقوط أسطورةٍ بدأت بالذهب وانتهت بالتراب.
في تلك اللحظة، أدرك العالم أن “الثورة على أسنّة الرماح” ليست ثورة، بل جريمة تبحث عن مجدٍ ضائع، وأن السودان، رغم جراحه، يملك مناعة التاريخ التي تحرق كل دخيلٍ في محرقة الحقيقة.
الفاشر لم تنتصر فقط في معركة، بل أغلقت باب الخديعة إلى الأبد.
وما بين مقولة فولتير وصدى الرصاص الأخير، كُتب المشهد الأخير في دراما آل دقلو:
مشروع بدأ بالعنف… وانتهى في العدم.

