ضل الحراز: علي منصور حسب الله
نَشهد اليوم في دولة الإمارات التي تُقدّم نفسها في الخارج كداعم للانتقال الديمقراطي والحكم المدني و(حاضنة للاستقرار) في المنطقة واقعاً مختلفاً تماماً
فداخليّاً تسود حالة هلع أمني وضبط صارم للحريات يُقابله ظُلمٌ ممنهج لكل من طالب بالإصلاح أما خارجياً وبينما تُروّج لنفسها كشريك للسلام والديمقراطية تتخلق سياسات تدخّلية تغذّي الصراعات وتدعم المرتزقة لا من أجل حرية الشعوب بل لأجل المصالح والنفوذ واليوم نمضي خطوة إلى الأمام لنرى كيف أن الإمارات في السودان تمارس نسختها الخارجية من (الديمقراطية من ورق) بينما في الداخل تُحكم قبضتها على المجتمع بقوانين قمعية صُمّمت لتكميم الأفواه وردع الأصوات الحرة فمنذ نشأة دولة الإمارات ظلّ نظام أبو ظبي يعيش حالة قلقٍ مزمنة تجاه علاقة السلطة بالشعب
وبرغم المظاهر العمرانية والبهرجة الاقتصادية لم تنعم البلاد يومًا بحالة اطمئنان سياسي حقيقي
فكلما تصاعدت تطلعات الشباب لكسر القيود ضاعفت السلطات قبضتها الأمنية على أصحاب الرأي ونشطاء الفكر والسياسة وحقوق الإنسان لقد استبقت الإمارات موجة الثورات العربية بإجراءات أمنية قاسية فأغلقت الفضاء العام أمام أي رأي حرّ واعتقلت العشرات من المثقفين والإعلاميين والناشطين وسحبت الجنسيات وفرضت قوانين فضفاضة تُجرِّم حتى التعبير السلمي
ومن أبرز أدواتها قانون (مكافحة الجرائم الإلكترونية) والمحكمة الاتحادية العليا التي لا تُقبل أحكامها بالاستئناف فضلًا عن سياسة تجميد الأرصدة ومنع السفر وملاحقة المقيمين الأجانب وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب ومنع المرافعة القانونية فقد أغلقت الإمارات أبوابها أمام مؤسسات حقوق الإنسان الدولية ففي عام 2014 منعت ممثلي منظمة هيومن رايتس ووتش من دخول أراضيها بعد صدور تقريرها الذي كشف انتهاكاتها الجسيمة كما عرقلت عقد الندوة التي نظّمها المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في جنيف لمناقشة تدهور أوضاع حقوق الإنسان فيها
وتصف تقارير منظمات حقوقية عالمية الإمارات بأنها دولة بوليسية تستخدم القضاء كذراع أمنية وتحاكم المعارضين محاكمات سياسية ويظهر ذلك جليًا في بنية القانون الإماراتي نفسه
تنص المادة 176 من قانون العقوبات على أن (يعاقب بالحبس من أهان بإحدى طرق العلانية رئيس الدولة أو علمها أو شعارها الوطني) وهو نصّ فضفاض يتيح للنظام معاقبة أي نقد بوصفه إهانة أما المادة 8 فتُمدّد التجريم ليشمل نائب الرئيس وأعضاء المجلس الأعلى وولاة العهود بينما تعاقب المادة 174 بالإعدام كل من (شرع بالقوة في قلب نظام الحكم) وتُتبعها المادة 180 لتشمل حتى الجمعيات التي (تهدف إلى الترويج لقلب النظام متى كان استعمال القوة ملحوظًا) وهي صياغة مطّاطة استخدمت لتجريم دعوات الإصلاح السلمي كما تعاقب المادة 197 بالحبس من (حرّض غيره على عدم الانقياد للقوانين) وكأن الاعتراض المدني أحد مظاهر الديمقراطية صار جريمة ! وخلال عامي 2012–2013 اعتقلت الإمارات مجموعة كبيرة من الكتّاب والمحامين والناشطين عُرفت قضيتهم باسم قضية الـ94 ناشطًا ووُجّهت إليهم تهم (الانتماء لتنظيم سري يهدف إلى مناهضة أسس الدولة) غير أن الحقيقة أن أغلبهم لم يفعل سوى المطالبة بإصلاح سياسي وانتخابات نزيهة ومن بين هؤلاء القاضي السابق أحمد الزعابي
وأحمد غيث السويدي
والشيخ سلطان بن كايد القاسمي (رئيس جمعية الإصلاح) وصالح الظفيري وسالم ساحورة
وأحمد الطابور النعيمي
والدكتور محمد المنصوري مدير مركز الإمارات للدراسات والإعلام والكاتب راشد الشامسي وعبد الرحمن الحديدي والناشط عمران الرضوان والمستشار الأسري خالد الشيبة النعيمي والمدرب الإداري حسين النجار والدكتور محمد عبد الله الركن (عضو اتحاد المحامين الدوليين) ونجله راشد الركن وصهره عبد الله الهاجري وخليفة النعيمي وإبراهيم الياسي وعبد الرحمن النعيمي وغيرهم
هؤلاء لم يحملوا سلاحًا ولم يدعوا لانقلاب بل وقّعوا عريضة سلمية مع 133 مثقفًا تطالب بهامش من الحريات
ومع ذلك، زُجّ بهم في السجون وأُغلقت جلسات محاكمتهم أمام الإعلام الدولي وسُحبت الجنسية عن سبعة من أعضاء جمعية الإصلاح وهم
علي حسين الحمادي وشاهين عبد الله الحسني وحسن وحسين منيف الجابري وإبراهيم حسن المرزوقي ومحمد عبد الرازق الصديق وأحمد غيث السويدي في مخالفة صريحة للمادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتوالت الاعتقالات تباعًا
في 26 مارس 2012 اعتُقل القاضي أحمد الزعابي ثم في 9 أبريل الناشطون السبعة الذين سُحبت جنسياتهم ثم في 20 أبريل الشيخ سلطان القاسمي وفي يوليو شُنّت حملة شاملة طالت كتابًا ومدونين منهم الدكتور محمد الركن ونجله وفي ديسمبر 2012 اعتُقل الشاب محمد سالم الزمر (19 عامًا) بسبب تغريدات على الإنترنت وصودرت أجهزته ثم حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات وغرامة نصف مليون درهم كما حكمت المحكمة غيابيًا على الناشط عبد الرحمن عمر باجيير بخمس سنوات لإدارته موقعًا إلكترونيًا باسم متضامنون يفضح انتهاكات القضاء أما عبد الله الحديدي (نجل عبد الرحمن الحديدي) فحُكم عليه بالسجن عشرة أشهر لنشره مجريات جلسة محاكمة والده بموجب المادة 265 من قانون العقوبات وتكرر المشهد مع وليد الشحي الذي اعتُقل في مايو 2013 لتغريداته المتضامنة مع معتقلي الرأي وحُكم عليه بالسجن عامين وغرامة نصف مليون درهم وفي نوفمبر 2013 حوكم 20 مصريًا و10 إماراتيين بتهمة إنشاء جمعية غير مرخصة وتحويل أموال لجماعة الإخوان بمصر. وقد أكّد 14 متهمًا مصريًا أمام المحكمة أن اعترافاتهم انتُزعت تحت التعذيب ومن بين المتهمين الذين وصفتهم منظمة العفو الدولية ب(سجناء رأي) محمد المنصوري وحسين النجار وصالح الظفيري
كما اعتقلت السلطات
المواطن الأمريكي قاسم شيزاني لمشاركته في فيديو ساخر عن منطقة السطوة في دبي والحقوقي عبيد يوسف الزعبي بعد ظهوره في مقابلة على CNN
المواطن القطري عبد الرحمن الجيدة بسبب تغريداته عن تعذيب والده المعتقل محمود الجيدة واختُطف جمال الحمادي و27 مواطنًا آخر أواخر عام 2013 دون توجيه تهم أو الإفصاح عن أماكن احتجازهم وحتى النساء لم يسلمن من البطش
أسماء السويدي وشقيقتاها مريم واليازية السويدي احتُجزن قسرًا مائة يوم في عام 2015 بسبب تغريدات تضامن مع شقيقهن المعتقل الدكتور عيسى السويدي
وفي أغسطس 2014 اعتقلت السلطات 10 مواطنين ليبيين، وأخفت قسرًا اثنين منهم محمد وسليم العرادي، أشقاء السياسي الليبي عبد الرزاق العرادي كما حجبت الإمارات مواقع مثل الإمارات 71 وإيماسك ووطن والسبيل الأردنية والخليج لحقوق الإنسان وأغلقت منتديات الحوار الإلكتروني هذه الوقائع ليست استثناءً إنها منهج متكامل لقمع المجتمع المدني وتكميم كل صوت ناقد رغم هذا السجل الأسود، ترفع الإمارات في الخارج راية (دعم الانتقال السياسي والحكم المدني) خصوصًا في السودان لكن الواقع يكشف أن يدها الأخرى تموّل وتسلّح وتُدير مليشيا الدعم السريع (RSF) التي تمزق السودان تحت شعارات (دعم الاستقرار) و(السلام الإقليمي) في مايو 2025 أعلنت الحكومة السودانية قطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات واعتبارها (دولة مهاجمة) بعد اتهامها بتقديم دعم عسكري ومالي ضخم للدعم السريع الذي شنّ هجمات على بورتسودان ومرافق حيوية (المصادر: The Guardian، EFE، Le Monde Afrique).
وفي الوقت نفسه ألغت الخرطوم صفقة الميناء بقيمة 6 مليارات دولار مع أبو ظبي بسبب هذا الدعم ولا يُمكن فهم السياسة الإماراتية في السودان بمعزل عن المصالح الاقتصادية؛ فالتقارير تشير إلى أن ما يقرب من 97 % من الذهب المصدّر من السودان يذهب إلى الإمارات إلى جانب مشاريع الموانئ والزراعة والبنية التحتية التي تهدف إلى التمدد الاقتصادي الإماراتي على البحر الأحمر وما حوله مليشيا الدعم لقوات RSF يمنح الإمارات نفوذًا عسكريًا واقتصاديًا مباشرًا داخل السودان وخيارات متعددة في مفاوضات السلطة والتقاسم وتُظهر تقارير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) هذا الترابط الاقتصادي الوثيق بين الإمارات ومناطق النزاع السودانية فيما أكدت منظمات حقوقية دولية أن الأسلحة الصينية والإمدادات اللوجستية التي وصلت إلى الدعم السريع مرت عبر شبكات تمويل وتسليح مرتبطة بالإمارات، رغم نفيها العلني لذلك فكيف لدولة تُجرّم تغريدة أو كلمة نقد أن تدّعي دعم الحكم المدني في دولة أخرى؟
وكيف ترفع شعار الحرية وهي تحبس ناشطين كـمحمد الركن ووليد الشحي وبنات السويدي الثلاث والزعبي والزمر وغيرهم لمجرد رأي؟
إن الديمقراطية التي تروّج لها أبو ظبي في الخارج لا تتجاوز كونها غطاءً لتوسيع النفوذ الاقتصادي والعسكري على حساب الشعوب.
وفي السودان، الهدف ليس دعم الانتقال المدني بل ضمان السيطرة على الذهب والموانئ والزراعة وتأمين نفوذها على البحر الأحمر حين تقول الإمارات إنها تدعم الحكم المدني الكامل، ينبغي أن نسأل لماذا لا تطبّق ذلك في وطنها أولًا؟ لماذا لا تعطي شعبها مجلسًا منتخبًا بحريات كاملة؟
لماذا لا ترفع جهازها الأمني عن المجتمع المدني؟ الجواب واضح لأن البنية السياسية والأمنية داخلها لا تسمح بذلك ولأن رأس السلطة منصاع للعروش والمعادلات الأمنية لا للإرادة الشعبية أو الانتخابات الحرة عندما تُتوّج هذه السياسات بدعم خارجي لمليشيا تنتهك القانون الدولي في دولة مجاورة، يصبح واضحًا أن (الحكم المدني) ليس الهدف بل الوسيلة أو ربما العنوان الذي يُخدم من ورائه مشروع نفوذ اقتصادي واستراتيجي إن الزيف يكمن في التزامن بين خطاب دعم الحكم المدني وواقعٍ عمليّ يدعم جهة مسلّحة تهدّد الدولة، وبين دولة تُخضع الداخل بالقوانين الأمنية وتُضلّل الخارج بشعارات الديمقراطية إن كانت الإمارات صادقة في دعمها للانتقال المدني فلتبدأ أولًا بنفسها:
بإطلاق سراح معتقلي الرأي، واحترام دستورها، وتأسيس برلمان منتخب، ووقف تسخير القضاء لخدمة الأمن أما أن تسجن أبناءها لمطالبتهم بالإصلاح، وتدعم في الوقت نفسه مليشيات تفتك بالسودانيين، فذلك هو قِمّة النفاق السياسي إن الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب السوداني، تدرك اليوم أن (دعم الإمارات للمدنية) ليس سوى امتدادٍ لسياسةٍ قديمة قوامها القمع في الداخل والتضليل في الخارج.
فالحرية لا تُستورد من أنظمة بوليسية بل تُنتزع من إرادة الشعوب نفسها.
ولذلك فإن الموقف السوداني يجب أن يقوم على تعزيز سيادة الدولة ورفض أي تبعية اقتصادية أو عسكرية وتحقيق إصلاح سياسي حقيقي يعبر عن إرادة الشعب لا عن رغبة الخارج وضمان العدالة والشفافية في الموارد، ومساءلة كل من يستثمر في الحرب أو يستفيد من الفوضى وأن يكون (الدعم الدولي) مشروطًا بانتقال مدني فعلي، لا مجرد غطاء سياسي لمشاريع النفوذ
آخر الضل
#الدعم السريع منظمة إرهابية
#الامارات دولة راعية للإرهاب

